الأحد، 29 مارس 2020

عظم قدر نقاد الحديث وإتقانهم لعلم العلل الدارقطني أنموذجا


بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وبعد:

فهذه لمحة سريعة أبين فيها قدر الحافظ الكبير الدارقطني في علم علل الحديث من خلال الكلام على حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

قال الدارقطني في التتبع (184): "أخرج مسلم (3/47، و48) عن ابن المثنى وابن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينزل كتاب ...) الحديث. وأخرجه أيضًا عنهما عن غندر، عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف، وحديث شعبة عن حميد بن هلال صحيح، وحديث قتادة إنما رواه غندر، عن سعيد بن أبي عروبة لا عن شعبة، ولم يروه فيما أعلم عن شعبة غير بقية".

فهذا الحديث يرويه غندر، عن شعبة، عن قتادة، ويرويه عن شعبة، عن حميد بن هلال.

وقد تابع غندرا على روايته عن شعبة عن حميد: يحيى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ، ويحيى بن كثير، والطيالسي، والحسن بن موسى، وحجاج بن محمد، لذا قال الدارقطني: (وحديث شعبة عن حميد صحيح).

وأما رواية غندر، عن شعبة، عن قتادة، فإن الدارقطني انتقد على الإمام مسلم إخراجها، فقال: (وحديث قتادة إنما رواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة لا عن شعبة، ولم يروه فيما أعلم عن شعبة غير بقية).

أقول: يريد الدارقطني بهذه العبارة أن يعل رواية ابن بشار وابن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة، وأن الصواب في ذلك هي رواية شعبة، عن حميد.

لكن غندر توبع في روايته عن شعبة، عن قتادة:

تابعه: خالد بن الحارث، أخرج روايته النسائي في المجتبى طبعة التأصيل (٢٧٤٧) قال: "أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا خالد: حدثنا شعبة، عن قتادة ...".

وتابعه أيضًا: شبابة بن سوار، أخرج روايته الطبراني في الكبير (١٨ /١٢٣)، قال: حدثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شبابة، ثنا شعبة، عن قتادة ..." به.

والناظر لأول وهلة في هذه الأسانيد قد يظن أن الدارقطني أخطأ في تعليله، وأن غندر لم يتفرد به عن شعبة، عن قتادة، وإنه قد توبع عليه، ولكن بعد البحث والتدقيق في أسانيد هذه المتابعات يتبين للباحث عدم صحتها.

فأما رواية خالد بن الحارث فالصواب أنه إنما يرويه عن سعيد بن أبي عروبة لا عن شعبة، وما وقع في طبعة التأصيل فهو تصحيف، وعلى الصواب جاء في السنن الكبرى.

قال النسائي (4/43): "أخبرنا عمرو بن علي أبو حفص الفلاس، قال: حدثنا خالد، حدثنا سعيد، عن قتادة ...." به.

قال المزي في تحفة الأشراف (8/190): "عن خالد بن الحارث عن شعبة، وفي نسخة عن سعيد" ثم ذكر كلام الدارقطني، وكأنه يريد أن يشير إلى أن الصواب سعيد.

وقد اغتر بهذا التصحيف الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في حاشية التتبع (١٧٥) فرد كلام الدارقطني بهذه المتابعة.

وطبعة التأصيل قد وقع لهم نفس هذا التصحيف في المجتبى في الحديث رقم (١٧٣٤) فليصحح ما هناك.

وأما متابعة شبابة فهي خطأ فاحش وقع في طبعة المعجم، فروايته أخرجها ابن أبي شيبة في المصنف (١٤٥٠٢) "قال: حدثنا شبابة، عن شعبة، قال: حدثني حميد بن هلال ...". به

وتابع ابن أبي شيبة: وعبدالله بن الحسن الهاشمي أخرج روايته البيهقي في الدلائل (7/80)، وجعفر بن منير المدائني أخرج روايته علي بن أحمد بن عبدالواحد في مشيخته، كلاهما عن شبابة به.

ومما يدل على أن ما وقع في طبعة المعجم خطأ أن الطبراني أخرج الحديث في ترجمة حميد بن هلال، عن مطرف، ولعل هذا الخطأ من النساخ.

والحديث رواه عن ابن أبي عروبة: عيسى بن يونس، ومحمد بن عبدالله الأنصاري، وعبدالرحيم بن سليمان، وحماد بن أسامة، وعبدالأعلى بن عبدالأعلى، ومحمد بن جعفر غندر، وعبدالسلام بن حرب، كلهم عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، ومما يدل على ذلك أنه هكذا ورد في كتاب ابن أبي عروبة في المناسك (٨٤) عن قتادة.

أقول: فلعل غندر حدث به من حفظه فوهم فيه على شعبة، فحمله ابن المثنى وابن بشار عنه على الوهم، أو يكون وقع تصحيف في رواية مسلم عن ابن المثنى وابن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، وأن صوابه سعيد، والنفس إلى هذا أميل.

وأما رواية بقية التي ذكرها الدارقطني، فأخرجها البزار في المسند (9/19)، وهي رواية منكرة، تفرد بها بقية عن شعبة، وهو لا يحتمل هذا التفرد عنه، وبقية شامي حمصي فأين أصحاب شعبة من أهل بلده حتى لا يرويه عنه إلا بقية؟!!.

قال ابن معين ( تاريخ دمشق10/339): "وعنده ألفا حديث عن شعبة أحاديث صحاح".

ومع هذه الكثرة فلم يخرج أصحاب الكتب الستة منها شي إلا النسائي أخرج خمسة أحاديث فقط.

وفي سندها أيضًا شيخ البزار محمد بن عمرو بن حَنَان، وثقه الخطيب، وقال ابن حبان: "ربما أغرب".

قال أبو نعيم في المستخرج (3/325): "رواه مسلم عن أبي موسى وبندار عن غندر، لم يروه إبراهيم -يعني ابن سفيان راوي صحيح مسلم- ولا أبو محمد -يعني القلانسي الراوي الأخر لصحيح مسلم-، وليس في كتاب أحمد -يقصد الإمام أحمد- في ترجمة حديث غندر، عن شعبة، عن قتادة، ورأيته في المسند رواية ابن مالك -يعني القطيعي-".

أقول: أخرجه الإمام أحمد في المسند (19841) عن محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة به.

وفي (١٩٨٣٣) عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، عن حميد بن هلال، فلعله تصحف سعيد بـ (شعبة) على أبي نعيم في نسخته ولابد.

وبهذا العرض المختصر للحديث عمران رضي الله عنه يتبين لك قدر هذا العالم الجليل في علم العلل، فرحمه الله وجزاه عن الإسلام وأهله خيرًا، والحمد لله رب العالمين.