بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه
وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فهذا
بحث حديثي حول صحة حديث عائشة رضي الله عنها الوارد في قول دعاء كفارة المجلس بعد
قراءة القرآن وبعد الصلاة، فأقول مستعينًا بالله:
روى
خلاد بن سليمان الحضرمي، عن خالد بن أبي عمران، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس مجلسًا أو صلى تكلم بكلمات، فسألته
عن الكلمات؟ فقال: (إن تكلم بخير كان طابعًا عليهن إلى يوم القيامة، وإن تكلم بغير
ذلك كان كفارة: سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفر الله وأتوب إليه).
أخرجه:
أحمد في المسند عن أبي سلمة منصور بن سلمة واللفظ له (41/34)، والنسائي في السنن
من طريقه (319)، وفي الكبرى من طريق سعيد بن الحكم (9/123)، وأبو العباس الأصم من
طريق أبي سلمة (مجموع فيه مصنفاته 234)، والطبراني في الدعاء من طريق عبدالله بن
عبدالحكم وطريق يحيى بن بكير (3/1566)، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق أبي سلمة
(2/142)، وقوام السنة في الترغيب والترهيب من طريقه (1/312)، وأبو سعد السمعاني في
الإملاء والإستملاء كذلك (2/358)، والضياء المقدسي في المنتقى من مسموعاته بمرو
أيضًا (2/452، و774)، وابن ناصر الدين الدمشقي في توضيح المشتبه من طريق سعيد بن
الحكم (9/281)، والحافظ ابن حجر في فتح الباري من طريق أبي سلمة (13/546)، كلهم عن
خلاد بن سليمان به.
وفي
رواية للنسائي (ما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا قط، ولا تلا قرآنًا،
ولا صلى صلاة إلا ختم ذلك بكلمات ... من قال خيرًا ختم له طابع على ذلك الخير، ومن
قال شرًا كن له كفارة ...)، وبنحوه السمعاني والطبراني لكن قال فيه: (ولا قرأ
قراءة)، وفيه (سبحانك اللهم وبحمدك ولا إله إلا أنت ...)، وكذا السمعاني لكنه لم
يذكر الواو قبل (لا)، وفي لفظ قوام السنة (سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب
إليك).
وخالف
خلادًا: عبيدالله بن زَحْر، فرواه خالد بن أبي عمران أن ابن عمر رضي الله عنهما
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يقوم من مجلسه إلا دعا بهؤلاء
الدعوات: (اللهم اقسم لنا من خشية ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا
به رحمتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا
وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من
عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا،
ولا تسلط علينا من لا يرحمنا).
أخرجه:
ابن المبارك في الزهد واللفظ له (120)، والترمذي في السنن عن علي بن حجر (5/481)،
وابن قتيبة في عيون الأخبار عن حسين بن حسن (2/305)، وابن أبي الدنيا في اليقين عن
داود بن عمرو (31)، والنسائي في الكبرى عن سويد بن نصر (9/155)، والدينوري في
المجالسة من طريق نعيم بن حماد (3/99)، وأبو الشيخ في الطبقات من طريقه (4/200)،
والشجري في الأمالي من طريق محمد بن حاتم (1/238)، والبغوي في شرح السنة من طريق
إبراهيم بن عبدالله الخلال (5/174)، والمقدسي في الترغيب في الدعاء والحث عليه من
طريق داود بن عمرو (193)، والذهبي في معجم شيوخه الكبير من طريقه (239)، وابن
جماعة في المشيخة كذلك (2/478)، كلهم عن ابن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن
عبيدالله بن زحر به.
وفي
لفظ ابن أبي الدنيا وأبي الشيخ والمقدسي والذهبي وابن جماعة (قَل ما كان يقوم من
مجلسه حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه ...)، وبنحوه البغوي وقالوا: (تبلغنا به
جنتك).
وخالف
يحيى بن أيوب: بكر بن مضر، فرواه عن عبيدالله بن زحر، عن خالد بن أبي عمران، عن
نافع، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو بهذه الدعوات، ويزعم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يدعو بهن لجلسائه: (اللهم اقسم لنا اليوم من خشيتك ما يحول
بيننا وبين معاصيك ...)
أخرجه:
البزار في البحر عن محمد بن الليث (12/243)، والنسائي في الكبرى عن الربيع بن
سليمان (9/154)، والطبراني في الدعاء عن المقدام بن داود (3/1565)، وابن السني في
عمل اليوم والليلة من طريقه (العجالة 2/506)، وأبو سعد السمعاني من طريق الربيع
(2/437)، والقاضي عياض في الإلماع من طريق محمد بن سهل (248)، كلهم عن عبدالله بن
عبدالحكم، عن بكر بن مضر، عن عبيدالله بن زحر به.
وتابع
بكرًا: الليث بن سعد، فرواه عن خالد بن أبي عمران، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله
عنهما به.
أخرجه:
الطبراني في الدعاء (3/1566)، قال: حدثنا المقدام بن داود، ثنا عبدالله بن
عبدالحكم، ثنا بكر بن مضر، عن خالد بن أبي عمران. ح وحدثنا مطلب بن شعيب، ثنا
عبدالله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن أبي عمران. ح وحدثنا أبو الزنباع روح بن
الفرج، ثنا يحيى بن بكير، ثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن نافع، عن ابن
عمر رضي الله عنهما به.
وتابعهما:
ابن لهيعة، فرواه عن خالد بن أبي عمران، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه
كان إذا جلس مجلسًا لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهؤلاء الكلمات ...).
أخرجه:
الطبراني في الدعاء من طريق يحيى بن بكير (3/1566)، وتمام في الفوائد من طريق عمرو
بن هاشم (1/214)، وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريقه (16/186)، كلاهما عن ابن
لهيعة به.
الكلام
على الروايات:
أولاً:
رواية يحيى بن أيوب عن عبيدالله بن زحر منقطعة، خالد بن أبي عمران لم يسمع من ابن عمر
رضي الله عنهما.
قال
المزي في تحفة الإشراف (5/343): "خالد بن أبي عمران عن ابن عمر رضي الله
عنهما، ولم يسمع منه".
وكذا
في تهذيب الكمال (8/142).
ثانيًا:
المحفوظ عن خالد بن أبي عمران هي رواية خلاد بن سليمان، أما رواية عبيدالله بن زحر
فقد اضطرب فيها مرة يذكر نافعًا، ومرة يسقطه، وربما يكون إسقاطه من يحيى بن أيوب،
فإن يحيى متكلم في حفظه. قال الإمام أحمد في العلل (3/52): "كان سيء الحفظ".
وقال
أبو حاتم في الجرح والتعديل (9/127): "ومحل يحيى الصدق، يكتب حديثه ولا يحتج
به".
وقال
ابن سعد في الطبقات (7/516): "كان منكر
الحديث".
وقال
النسائي في الضعفاء (249): "ليس بذاك القوي".
قال الحافظ في
التقريب (1049): "صدوق ربما أخطأ".
وعبيدالله
بن زحر أيضًا هو في نفسه متكلم فيه. قال ابن المديني في العلل (168): "منكر الحديث".
وقال
ابن معين في التاريخ رواية الدوري (2/382): "ليس
بشيء".
وقال
العجلي في معرفة الثقات (2/109): "يكتب
حديثه وليس بالقوي".
وقال
أبو حاتم في الجرح والتعديل (5/315): "لين
الحديث".
وضعف
الإمام أحمد كما في الجرح والتعديل.
وقال
يعقوب بن سفيان في المعرفة (2/434): "ضعيف".
وقال
ابن عدي في الكامل (5/524): "ولعبيد الله بن زحر
غير ما ذكرت من الحديث، ويقع في أحاديثه ما لا يتابع عليه، وأروى الناس عنه يحيى
بن أيوب من رواية ابن أبي مريم عنه".
وقال
ابن حبان في المجروحين (2/29): "منكر الحديث جدًا،
يروي الموضوعات عن الأثبات".
وقال
الحافظ في التقريب (638): "صدوق يخطئ".
وقد
تفرد به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وقال
البزار: "وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي r بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه".
وبه
أعل الحديث ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (5/657).
ولا
تنفع متابعة ابن لهيعة، فهو ضعيف ومدلس ولم يصرح بالسماع.
ثالثًا:
رواية المطلب بن شعيب، عن عبدالله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن خالد بن أبي عمران
خطأ، خالفه فيها: محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، فروياها عن عبدالله بن صالح، عن
الليث، عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد - كما سيأتي- أقول: هذا إذا صح ما
وقع في طبعة الدعاء للطبراني.
رابعًا:
رواية خلاد بن سليمان عندي خطأ، من وجوه:
الوجه
الأول: أن خلاد بن سليمان أمي لا يكتب. قال
أبو سعيد بن يونس (تهذيب الكمال (8/355): "كان خياطًا، وكان أميًا لا
يكتب".
والحفظ
خوان.
ولم
أقف على توثيق له إلا عن علي بن الحسين بن
الجنيد، فقال (الجرح والتعديل 3/365): "كان مصريًا يقرأ القرآن، وكان
ثقة".
وذكره
ابن خلفون في الثقات له (إكمال تهذيب الكمال 4/233)، وابن حبان في ثقاته (8/224)،
ولكنه سماه خالدًا، وقال عنه: "شيخ".
الوجه
الثاني: أنه اختلف عليه في لفظه، فمرة يقول: ( كان إذا جلس مجلسًا أو صلى تكلم
بكلمات)، ومرة يزيد فيه (أو تلا قرآنًا).
الوجه
الثالث: أني لم أجد الحديث إلا من طريقه، عن خالد بن أبي عمران، وهما مصريًا، فأين
أهل الحجاز عن هذا الحديث لا يروونه عن عروة؟!.
أما
قول الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح (92/733): "إسناده
صحيح".
فهو
اغترار منه بظاهر السند، تابعه عليه الألباني في الصحيحة (7/493) رحمهما الله.
الوجه
الرابع: أنه خالفه الثقات في لفظه عن عائشة رضي الله عنها ولفظهم هو الصحيح عن
عائشة رضي الله عنها، فقد رواه مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله
r يكثر أن يقول قبل موته (سبحان الله وبحمده،
أستغفر الله وأتوب إليه)، قالت: وكان يكثر أن يقوله، فقلت: يا رسول الله r إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم،
فقال: (إن ربي U أخبرني أني سأرى علمًا في أمتي، وإني إذا
رأيت ذلك العلم أن أسبح بحمده وأستغفره، فقد رأيت ذلك (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ)).
وما
رواه ابن جريج قال: قلت لعطاء: كيف تقول: أنت في الركوع؟ قال: أما سبحانك وبحمدك
لا إله إلا أنت، فأخبرني ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: افتقدت
النبي r ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه
فتحسست ثم رجعت فإذا هو راكع أو ساجد يقول: (سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت)، فقلت:
بأبي أنت وأمي إني
لفي شأن وإنك لفي آخر).
وهما
في الصحيحين.
أقول:
فلعل خلاد بن سليمان دخل عليه حديث في حديث.
ولم
يرد -فيما أعلم- قول هذا الدعاء بعد تلاوة القرآن وبعد الصلاة إلا في هذه الرواية.
الوجه
الخامس: أنه لم يعمل به أحد من السلف من القرون الفاضلة علمته بعد الصلاة، ولا بعد
قراءة القرآن، وعدم
قول أحد به دليل على خطأ الرواية، وعدم صحتها.
قال ابن أبي حاتم في العلل (2/361): "سئل
أبو زرعة عن حديث رواه ابن عائشة، عن محمد بن الحارث، عن محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني،
عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: (لا شفعة لغائب
ولا لصغير)؟ فقال أبو زرعة: هذا حديث منكر، لا أعلم أحدًا قال بهذا، الغائب له
شفعة، والصبي حتى يكبر، فلم يقرأ علينا هذا الحديث".
وقال البيهقي في جماع أبواب وجوب قراءة القرآن في الصلاة (166):
"... فلا يجوز حمل الخبر على ما لا يقول به أحد، ولا يساعده لسان
العرب".
وقال في (490): "ولا نعلم أحدًا يقول ذلك، فدل على ضعف
الخبر".
وقال الذهبي في السير (16/405): "قال
ابن خلكان: كان يتهم بالاعتزال، وكان ربما يختار في الفتوى، فيقال له في ذلك،
فيقول: (ويحكم حدث فلان، عن فلان، عن رسول الله r بكذا وكذا، والأخذ
بالحديث أولى من الأخذ بقول الشافعي وأبي حنيفة).
قلت: هذا جيد، لكن بشرط أن يكون قد قال بذلك الحديث إمام من نظراء الإمامين مثل
مالك أو سفيان أو الأوزاعي، وبأن يكون الحديث ثابتًا سالمًا من علة، وبأن لا يكون
حجة أبي حنيفة، والشافعي حديثًا صحيحًا معارضًا للآخر، أما من أخذ بحديث صحيح، وقد
تنكبه سائر أئمة الاجتهاد فلا، كخبر (فإن شرب في الرابعة فاقتلوه)، وكحديث (لعن
الله السارق يسرق البيضة فتقطع
يده)".
وقال المعلمي في أحكام الحديث
الضعيف (مجموع الرسائل الحديثية 15/200): "ولا يظن بالصحابة والتابعين وسلف
الأمة أن تفوتهم سنة من سنن النبي r فينفرد بها بعض
الضعفاء، والمنفرد بها إن كان واحدًا فذلك حديث غريب، وقد أبلغ الأئمة في ذم
الغرائب".
تنبيه:
قال
الحافظ في النكت الظراف (6/94): "ذكر الترمذي عقب رواية خالد بن أبي عمران أي
عن ابن عمر رضي الله عنهما ما نصه: (روى بعضهم هذا الحديث عن خالد بن أبي عمران،
عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما)، قوله -يعني المزي- (وروى سي عن خالد بن أبي
عمران، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها) قلت: هو حديث آخر، ليس فيه شيء مما في
الأول، فحديث ابن عمر رضي الله عنهما أول الخبر (اللهم اقسم لنا من خشيتك ...) إلى
آخر الدعاء، وحديث عائشة رضي الله عنها في ختم المجلس (سبحانك اللهم وبحمدك لا إله
إلا أنت ... الحديث".
أقول:
بل هو حديث واحد اختلف الرواة فيه على خالد بن أبي عمران في سنده كما أوضحته،
فمنهم من رواه عن خالد بن أبي عمران، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومنهم
من أسقط منه نافعًا، ومنهم من رواه عن خالد بن أبي عمران، عن عروة، عن عائشة رضي
الله عنها، واختلفوا في لفظه أيضًا عليه، فظهر بذلك صواب صنيع الحافظ المزي رحمه
الله حيث ذكرهما في باب واحد، والله أعلم.