الخميس، 30 سبتمبر 2021

تخريج أثر أبي ذر (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر في السماء يقلب).

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

وبعد:

فهذا مقال في تخريج الأثر الوارد عن أبي ذر رضي الله عنه الذي يقول فيه: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر في السماء يقلب جناحيه إلا وقد أوجدنا فيه علمًا).

الأثر اختلف فيه الرواة على فطر بن خليفة:

فرواه ابن عيينة، عن فطر بن خليفة([1])، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر رضي الله عنهما به.

أخرجه: البزار عن محمد بن عبدالله بن يزيد المقرئ واللفظ له([2])، وابن حبان من طريقه([3])، وابن أخي ميمي من طريق عبيدالله بن عمر الجشمي([4])، والطبراني من طريق محمد بن عبدالله([5])، والمخلص من طريق عبيدالله بن عمر([6])، والهروي من طريق محمد بن عبدالله([7])، كلاهما عن ابن عيينة به.

زاد فيه الطبراني (قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم).

تابع ابن عيينة: سفيان الثوري، فرواه عن فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر رضي الله عنهما به.

أخرجه: الدارقطني عن أحمد بن محمد بن أبي بكر الواسطي والحسين بن إسماعيل المحاملي([8])، وابن جميع الصيداوي عن محمد بن مخلد([9])، والهروي من طريق محمد بن سهل الكاتب([10])، وابن عساكر من طريق محمد بن مخلد([11])، والذهبي من طريقه([12])، كلهم عن عيسى بن أبي حرب([13])، عن يحيى بن أبي بكير([14])، عن سفيان([15]) به.

وفي رواية الدارقطني: (عن سفيان الثوري).

وخالف ابن أبي بكير: محمد بن يوسف الفريابي، فرواه عن الثوري، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى الثوري([16])، عن أشياخ لهم، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (... تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قلب طائر ...).

أخرجه: عباس الترقفي([17])، قال: حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان به.

وذكر قبله (بينا شاتان تنتطحان على علف لهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر تدري فيم ينتطحان؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: لكن الله سيقضي بينهما).

وتابع الفريابي: شعبة، وعبدالله بن نمير، وعلي بن مسهر، فرووه عن الأعمش، عن منذر الثوري، عن أصحاب له، عن أبي ذر رضي الله عنه به.

أخرجه: الطيالسي عن شعبة([18])، وابن أبي شيبة عن ابن نمير([19])، وأحمد عن ابن نمير ومن طريق شعبة([20])، وأبو يعلى الموصلي من طريق ابن نمير([21])، والهروي من طريق علي بن مسهر([22])، كلهم عن الأعمش به.

وفي رواية لأحمد والهروي (أشياخ من التيم)، وفي رواية لأحمد (عن أشياخ لهم).

وخالفهم: وكيع، وحجاج بن محمد، وإسحاق بن سليمان، فرووه عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر رضي الله عنه به.

أخرجه: وكيع([23])، وأحمد عن حجاج بن محمد([24])، وابن سعد عن وكيع([25])، والبلاذري من طريقه([26])، والطبري من طريق إسحاق بن سليمان([27])، كلهم عن فطر به.

وذكر الطبري قبله (انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أبا ذر أتدري فيم ينتطحا؟ قلت: لا، لكن الله يدري، وسيقضي بينهما).

وخالفهم جميعًا: محمد بن عبيد الطنافسي([28])، فرواه عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي الدرداء رضي الله عنه به.

أخرجه: أحمد بن منيع([29])، والهروي من طريق سهل بن عمار([30])، كلاهما عن محمد بن عبيد به. 

وخالف محمد بن عبيد: يحيى بن سعيد القطان، فرواه عن فطر بن خليفة، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي الدرداء رضي الله عنه به.

أخرجه: أبو يعلى الموصلي([31])، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر([32])، حدثنا يحيى، عن فطر به.

الكلام على الروايات:

أولاً: المحفوظ في الأثر هي رواية الأعمش، عن منذر الثوري، عن أشياخ له، عن أبي ذر رضي الله عنه، وأما باقي الروايات فهي معلولة، وإليك البيان:

أما رواية ابن عيينة فخطأ، قد خالفه الناس: وكيع، وحجاج بن محمد، وإسحاق بن سليمان، فرووه عن فطر ولم يدخلوا في سنده أبو الطفيل رضي الله عنه.

قال أحمد بن منيع: "خالف ابن عيينة في هذا الناس، رواه غيره عن فطر، عن منذر، عن أبي ذر رضي الله عنه، وزعموا أنه الصواب"([33]).

وقال الدراقطني بعد أن ذكر رواية ابن عيينة: "وغير ابن عيينة يرويه عن فطر، عن منذر الثوري، عن أبي ذر مرسلاً، وهو الصحيح([34])".

وقد تفرد بوصله ابن عيينة كما قال الدارقطني([35]).

ولا تنفعه متابعة الثوري عليه، فإنه قد خالف يحيى بن أبي بكير من هو أحفظ منه في الثوري: الفريابي.

قال الدارقطني: "وقيل: عن الثوري أيضًا، وليس بصحيح".

وبهذا البيان تعلم ما في تصحيح ابن حبان لطريق ابن عيينة، وتكون خفيت علته عليه.

وأما رواية وكيع وحجاج بن محمد وإسحاق بن سليمان، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر رضي الله عنه فهي منقطعة.

قال البزار: "ومنذر لم يدرك أبا ذر رضي الله عنه".

وقال الدراقطني: "وغير ابن عيينة يرويه عن فطر، عن منذر الثوري، عن أبي ذر مرسلاً".

وقال ابن حجر بعد أن ذكر رواية أحمد بن منيع: "رواته ثقات إلا أنه منقطع".

وقد بين الواسطة بينهما الأعمش في روايته.

وأما رواية محمد بن عبيد، عن فطر، عن منذر الثوري، فهي خطأ من محمد بن عبيد الطنافسي، جعل بدل أبي ذر: أبا الدرداء رضي الله عنهما.

قال الهروي بعد روايته: "صوابه (عن أبي ذر)".

وكذلك رواية يحيى بن سعيد القطان خطأ أيضًا، جعل بدل منذر الثوري: عطاء بن أبي رباح، ولعل الخطأ ممن دونه.

ثانيًا: الأثر ضعيف لوجود المبهم في سنده، ولا يقال: إن المبهم في رواية الأعمش، هو أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، لأن الأعمش بين في روايته أن من حدث منذر بن يعلى الثوري هو من التيم، وهم تيم الرباب: من بني عبد مناة بن أُدّ بن طابخة([36])، وعامر رضي الله عنه ليثي، من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة([37]).

قال الهيثمي: "ورجال الرواية الثانية رجال الصحيح وفيها راو لم يسم"([38]).

ورده العلامة الألباني بقوله: "وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أصحاب المنذر ... فإنهم لم يسموا، و ذلك مما لا يضر لأنهم جمع من التابعين ينجبر جهالتهم بكثرتهم كما نبه على ذلك الحافظ السخاوي في غير هذا الحديث"([39]).

والصواب مع الهيثمي، فإن رواته لم يسموا فهم مجاهيل([40]).  

ثالثًا: زاد الطبراني في الأثر حديثًا مرفوعًا وهو قوله (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم).

وهذا الحديث لم يذكر مع الأثر إلا عند الطبراني، وهو ضعيف لما سبق بيانه.

رابعًا: الزيادة المرفوعة التي ذكرها الطبري وعباس الترقفي في الشاتين أيضًا ضعيفة، وقد وردت من طرق أخرى ولا يسلم طريق من طرقها من مقال([41])، والله أعلم.

 

تنبيه:

قال ابن حبان في الصحيح: "معنى (عندنا منه) يعني بأوامره ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحته صلى الله عليه وسلم".



([1]) قال الحافظ في التقريب (787): صدوق.

([2]) البحر الزخار (9/341).

([3]) الصحيح (1/267).

([4]) الفوائد (59).

([5]) المعجم الكبير (2/155).

([6]) المخلصيات (3/31).

([7]) ذم الكلام (4/48).

([8]) العلل (6/290),

([9]) معجم الشيوخ (142).

([10]) ذم الكلام (4/48).

([11]) تاريخ دمشق (43/238).

([12]) تذكرة الحفاظ (3/37).

([13]) قال الخطيب في تاريخه (12/492): كان ثقة.

([14]) قال الحافظ في التقريب (1050): ثقة.

([15]) توهم محقق كتاب ذم الكلام أن سفيان في الإسناد هو ابن عيينة.

([16]) قال الحافظ (972): ثقة.

([17]) جزء الترقفي (157).

([18]) المسند (1/385).

([19]) انظر: إتحاف الخيرة للبوصيري (1/188).

([20]) المسند (35/290، و346).

([21]) انظر: إتحاف الخيرة (1/188).

([22]) ذم الكلام (4/50).

([23]) الزهد (2/843).

([24]) المسند (35/346).

([25]) الطبقات (2/354).

([26]) أنساب الأشراف (11/126).

([27]) التفسير (9/236).

([28]) قال الحافظ في التقريب (875): ثقة يحفظ.

([29]) انظر: المطالب العالية لابن حجر (9/208).

([30]) ذم الكلام (4/47).

([31]) المسند (9/46).

([32]) قال الحافظ (829): ثقة.

([33]) المخلصيات (3/32).

([34]) يعني عن فطر.

([35]) انظر: أطراف الغرائب والأفراد (5/55).

([36]) انظر: الإكمال لابن ماكولا (1/586)، والأنساب للسمعاني (2/116).

([37]) انظر: اللباب لابن الأثير (2/119)، وتهذيب الكمال للمزي (14/79)، والإكمال لمغلطاي (7/154).

([38]) مجمع الزوائد (10/638).

([39]) الصحيحة (4/610).

([40]) انظر رسالتي: (رواية الجماعة المبهمين وأثرها في الحكم على الحديث)، نشر مجلة الجامعة الإسلامية للعلوم الشرعية. العدد (187). عام (1440هـ).

([41]) انظر: العلل للدارقطني (6/272).