بسم الله الرحمن الرحيم
عنعنة
ابن عيينة وأثرها في الحكم على الحديث:
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه وزوجاته والتابعين.
أما
بعد:
فمما
لا شك فيه ولا ريب إمامة سفيان بن عيينة رحمه الله، فهو جبل من جبال الدين، وإمام
من أئمة المسلمين، صان الله به الملة، وحفظ به السنة.
قال
عنه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/252): "ومنهم الإمام الأمين، ذو العقل
الرصين، والرأي الراجح الركين، المستنبط للمعاني، والمرتبط للمباني، أبو محمد
سفيان بن عيينة الهلالي، كان عالمًا ناقدًا، وزاهدًا عابدًا، علمه مشهور، وزهده
معمور".
وقال
الإمام الذهبي في سيره (8/454): "الإمام الكبير، حافظ العصر، شيخ الإسلام".
ومع
هذه المنزلة العظيمة، والمرتبة الرفيعة التي حازها هذا الإمام الكبير، فقد وصفه
بعض أهل العلم بالتدليس.
قال
يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/633): حدثني الفضل بن زياد، عن أحمد قال:
"قد دلس قوم، ثم ذكر الأعمش، قال: كان هشيم يكثر -يعني التدليس- وسفيان بن
عيينة أيضًا".
وقال
الزركشي في النكت على كتاب ابن الصلاح (2/72): "قال الكرابيسي: دلس ابن عيينة
عن مثل: معمر، ومسعر بن كدام، ومالك بن مغول".
وقال
النسائي في ذكر أسماء المدلسين (121): "ذكر المدلسين: الحسن وقتادة وحميد
الطويل ... وابن عيينة".
وقال
الحاكم في المخل إلى الإكليل (113): "وسفيان بن عيينة مشهور سماعه منهما
جميعًا، إلا أنه لم يذكر السماع في هذه الرواية، وقد عرف بأنه يدلس فيما يفوته
سماعه".
وقال
الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس
(114): "وصفه النسائي وغيره بالتدليس".
لكنهم
جعلوه من المدلسين الذين لا يدلسون إلا عن الثقات.
قال
الدارقطني في سؤالات الحاكم (175): "فأما ابن عيينة، فإنه لا يدلس إلا عن
الثقات".
وهؤلاء
الصنف من المدلسين عند بعضهم تقبل عنعنتهم، ولا يشترط أن يصرحوا بالسماع.
قال
أبو الفتح الأزدي الحافظ (الكفاية 2/387): "قد كره أهل العلم بالحديث مثل
شعبة وغيره التدليس في الحديث، وهو قبيح ومهانة، والتدليس على ضربين: فإن كان
تدليسًا عن ثقة لم يحتج أن يوقف على شيء وقبل منه، ومن كان يدلس عن غير ثقة لم
يقبل منه الحديث إذا أرسله حتى يقول: حدثني فلان أو سمعت، فنحن نقبل تدليس ابن
عيينة ونظرائه، لأنه يحيل على مليء ثقة ... وابن عيينة إذا وقفته قال: عن ابن جريج
ومعمر ونظرائهما".
وقال
ابن عبدالبر في التمهيد (1/21): "وكذلك من عرف بالتدليس المجتمع عليه، وكان
من المسامحين في الأخذ عن كل أحد، لم يحتج بشيء مما رواه حتى يقول: أخبرنا أو
سمعت، هذا إذا كان عدلاً ثقة في نفسه، وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة استغني عن
توقيفه، ولم يسأل عن تدليسه".
قال
(1/29): "قالوا: ويقبل تدليس ابن عيينة، لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج
ومعمر ونظرائهما".
وقال
ابن حبان في مقدمة صحيحه (1/161): "وأما المدلسون الذين هم ثقات
وعدول، فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بينوا السماع فيما رووا، مثل: الثوري،
والأعمش، وأبي إسحاق وأضرابهم من الأئمة المتقين، وأهل الورع في الدين، لأنا متى
قبلنا خبر مدلس لم يبين السماع فيه وإن كان ثقة لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل
كلها، لأنه لا يدري لعل هذا المدلس دلس هذا الخبر عن ضعيف يهي الخبر بذكره إذا عرف،
اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلا عن ثقة، فإذا كان كذلك قبلت
روايته وإن لم يبين السماع، وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده، فإنه كان
يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا
وجد الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه، والحكم في قبول روايته لهذه العلة
وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن عباس رضي الله عنهما إذا روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع منه".
لذا
جعله الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين
بالتدليس في المرتبة الثانية من المدلسين (114)، وقال عنهم (62): "من احتمل
الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح، وذلك لإمامته، وقلة تدليسه في جنب ما روى
كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة".
·
التعقبات على الكلام السابق:
أولاً:
كلام أبي الفتح الأزدي حيث قال: (فإن كان تدليسًا عن ثقة لم يحتج أن يوقف على شيء
وقبل منه).
وتابعه
عليه ابن عبدالبر رحمه الله فقال: (وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة استغني عن
توقيفه، ولم يسأل عن تدليسه).
وهو
معنى كلام ابن حبان حيث قال: (فإذا كان كذلك قبلت روايته وإن لم يبين السماع).
وكلام
هؤلاء الأئمة صحيح، ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه (الفتح
6/567): حدثني الحسن بن صباح البزار، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي
الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه).
قال
الحميدي في مسنده بعد أن أخرجه (1/120): "لم يسمعه سفيان من الزهري".
والحديث
قد رواه عن ابن عيينة: الحسن بن الصباح، وزهير بن معاوية، والحميدي، وإسماعيل بن
إبراهيم عنه، عن الزهري معنعنًا، ولم أقف على الواسطة التي بين سفيان والزهري في
الحديث من خلال تتبع طرقه، على أن الحديث صحيح عن الزهري، قد رواه عنه يونس بن يزيد
الأيلي، وأخرجه البخاري من روايته معلقًا عقب رواية سفيان، فلعله رحمه الله يريد
أن يشير إلى أن سفيان قد يكون أخذه عنه، والبخاري أخرج الحديث في الشواهد، وهو
يخرج فيها ما ليس من شرطه.
قال
ابن حجر في الفتح (3/230): "قوله (عن أبي الأسود)
... ولم أره من رواية عبدالله بن بريدة عنه إلا معنعنًا، وقد حكى الدارقطني في
كتاب التتبع عن على بن المديني أن بن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر، عن أبي
الأسود، ولم يقل في هذا الحديث (سمعت أبا الأسود)، قلت: وابن بريدة ولد في عهد عمر
رضي الله عنه، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفى بالمعاصرة،
فلعله أخرجه شاهدًا واكتفى للأصل بحديث أنس رضي الله عنه الذي قبله، والله
أعلم".
والعجب
من الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/578) لم يتعرض لعلة حديث سفيان لا من قريب ولا
من بعيد.
مثال
أخر:
ما
رواه ابن خزيمة في صحيحه (4/77)، قال: حدثنا أحمد بن عبدة، أخبرنا سفيان، عن
الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح).
قال
الحميدي في مسنده (1/157): "قال سفيان: ولم أسمعه من الزهري".
فهؤلاء
الأئمة قبلوا عنعنة سفيان رغم إن الحميدي بين أنه لم يسمعه من الزهري، فدل على أن
هناك واسطة بينه وبين الزهري أخذ ابن عيينة الحديث منه.
كلام
الأئمة السابق ليس على إطلاقه:
ومع
صحة ما قاله هؤلاء الأئمة رحمهم الله في عنعنة من لا يدلس إلا عن ثقة، إلا أنه ليس
على إطلاقه، فإنه إذا كان في الحديث ما يجب التوقف فيه، فإنه يفتش حينئذ عن حاله،
فإن وجد من الرواة من يحمل عليه الخطأ وإلا جعل الحمل فيه على عنعنة الراوي الثقة
المدلس، وهذا أولى بلا شك من توهيمه، أو توهيم الثقة الراوي عنه.
قال الزركشي في البحر
المحيط (4/411): "ولا خلاف أن المرسِل إذا كان غير ثقة لا يقبل إرساله، فإن
كان ثقة وعرف أنه يأخذ عن الضعفاء، فلا يحتج بما أرسله، سواء التابعي وغيره، وكذا
من عرف بالتدليس المجمع عليه، حتى يصرح بالتحديث، وإن كان لا يروي إلا عن ثقة
فمرسله وتدليسه هل يقبل؟ فيه خلاف".
مثاله:
قال ابن أبي حاتم في العلل (6/348): " سألت أبي عن حديث رواه أبو بكر بن أبي
عتاب الأعين، عن أبي صالح، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من مضر
وبنى تميم، فقيل: من هو يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أويس القرني)؟ قال
أبي: هذا الحديث ليس هو في كتاب أبي صالح عن الليث، نظرت في أصل الليث وليس فيه
هذا الحديث، ولم يذكر أيضًا الليث في هذا الحديث خبر، ويحتمل أن يكون سمعه من غير
ثقة ودلسه، ولم يروه غير أبي صالح".
ولهذا
كان بعض الرواة يوقف ابن عيينة ويسأله عن سماعه.
قال
الحميدي في مسنده (1/105): ثنا سفيان، قال: سمعت الزهري يحدث عن عروة، عن عائشة
رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين لحرامه حين
أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، قال أبو بكر: "وهذا مما لم يكن يحدث به
سفيان قديمًا عن الزهري، فوقفناه عليه فقال: سمعته من الزهري".
وقال
الإمام البخاري في صحيحه (الفتح 8/326): حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا ابن عيينة،
عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما ... "فقلت
لسفيان: إسناده؟ فقال: حدثنا فشغله إنسان ولم يقل ابن جريج".
والأئمة
رحمهم الله يعلقون بالعنعنة العلة إن كانت من غير مدلس، فكيف إذا كان الراوي مدلسًا
وبان خطؤه في الحديث!.
قال
المعلمي رحمه الله في مقدمة الفوائد المجموعة (8): "إذا استنكر الأئمة
المحققون المتن، وكان ظاهره الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة
مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست قادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك
المنكر، فمن ذلك إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير
مدلس".
ثم
ضرب الأمثلة على ذلك فلتراجع.
ثانيًا:
مؤاخذات على كلام ابن حبان رحمه الله:
أولاً:
قوله (اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلا عن ثقة ... وهذا ليس في
الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده).
قال
ابن حجر في مراتب أهل التقديس (115): "كان يدلس، لكن لا يدلس إلا عن ثقة،
وادعى ابن حبان بأن ذلك كان خاصًا به".
أقول:
قد ثبت عن بعض الثقات أنهم لا يدلسون إلا عن ثقة كحميد الطويل، ويونس بن عبيد،
وعبدالله بن أبي نجيح.
قال
السخاوي في فتح المغيث (1/323): "وكذا قيل في حميد الطويل إنه لم يسمع من أنس
رضي الله عنه إلا اليسير، وجل حديثه إنما هو عن ثابت عنه ولكنه يدلسه، فقال
العلائي ردًا على من قال: (إنه لا يحتج من حديث حميد إلا بما صرح فيه) قد بين
الواسطة فيها، وهو ثقة محتج به".
ثانيًا:
قوله (والحكم في قبول روايته لهذه العلة وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن
عباس رضي الله عنهما إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع منه).
أقول:
لو قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي r لم يكن في حكمه، فكيف لو قال ذلك صحابي علم
عدم سماعه ذلك الحديث من النبي r! والفرق بينهما بين واضح، فالصحابة رضي الله
عنهم كلهم عدول ثقات، لا تضر جهالتهم بحال، سواء ذكروا أم لم يذكروا، سموا أو لم
يسموا، وعلى ذلك إجماع أهل الدين.
قال ابن القيم في
تهذيب السنن (1/260): "... وأما العلة الثانية، فباطلة أيضًا على أصل ابن
حزم، وأصل سائر أهل الحديث، فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث، لثبوت
عدالة جميعهم".
وقال
النووي في إرشاد طلاب الحقائق (2/590): "للصحابة رضي الله عنهم بأسرهم خصيصة،
وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، لكونهم عدولاً على الإطلاق بنصوص الكتاب
والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع على تعديل جميعهم، ومن لابس الفتنة، فكذلك
بإجماع من يعتد به".
ثالثًا:
أن قوله (فإنه كان يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ...)
أقول: قد بالغ رحمه الله في ذلك، فلو بان أن في
الحديث علة فإنه والحالة هذه يعل الحديث بعنعنة ابن عيينة.
قال
الحاكم في المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل (113): "وسفيان بن عيينة مشهور
سماعه منهما جميعًا، إلا أنه لم يذكر السماع في هذه الرواية، وقد عرف بأنه يدلس
فيما يفوته سماعه".
وقال
السخاوي في فتح المغيث (1/322): "وجزم به أبو حاتم ابن حبان، وابن عبدالبر
وغيرهما في حق سفيان بن عيينة، وبالغ ابن حبان في ذلك حتى قال: إنه لا يوجد له
تدليس قط إلا وجد بعينه قد بين سماعه فيه من ثقة، يعني كما قيل في سعيد بن المسيب".
الأمثلة
على ذلك:
ما
رواه ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي
الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية.
أخرجه:
الحميدي في المسند (1/81)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ عنه (2/697)، والترمذي
في السنن عن ابن أبي عمر (1/274)، وابن ماجه في سننه عنه (1/274)، والطبراني في
الأوسط من طريق إبراهيم بن بشار الرمادي (3/37)، والحاكم في المستدرك من طريق
الحميدي وطريق ابن أبي عمر (1/498)، وأبو نعيم في الحلية من طريق إبراهيم بن بشار
(7/292)، والبيهقي في المعرفة من طريق الحميدي (1/302)، كلهم عن ابن عيينة به.
الكلام
على هذه الرواية:
وهذا
الحديث معلول، أعله أهل العلم:
أولاً:
بعدم تصريح ابن عيينة بالسماع فيه.
قال
ابن أبي حاتم في العلل له (1/487): "سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة، عن
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه، عن النبي صلى
الله عليه وسلم ... في تخليل اللحية؟ قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن
ابن أبي عروبة، قلت: صحيح؟ قال: لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم
يذكر ابن عيينة في هذا الحديث الخبر، وهذا أيضًا مما يوهنه".
قال
ابن دقيق العيد في الإمام (1/490): "وفهمت من المكتوب ها هنا ما معناه: أن
ابن عيينة لم يذكر في هذا الحديث السماع أو الخبر أو ما يقارب هذا، قال:
"وهذا مما يوهنه"، قلت: أما كونه ليس في كتب ابن أبي عروبة فليس بالعلة
القوية بانفراد، ولكن لعله يضمه إلى ما يقع لسفيان من تدليس أحيانًا، مع كونه لم
يذكر السماع".
وقد
تفرد به ابن عيينة عن ابن أبي عروبة قاله أبو حاتم والطبراني.
وقال
أبو نعيم: "غريب من حديث سفيان، عن سعيد، تفرد به إبراهيم".
أقول:
تابعه الحميدي وابن أبي عمر كما سبق بيانه في التخريج.
قال
ابن القيم في تهذيب السنن (1/103): "ولكن متابعة ابن أبي عمر له ترفع هذه
العهدة".
ثانيًا:
أن قتادة لم يسمع الحديث من حسان بن بلال.
قال
مهنا (الإمام لابن دقيق العيد 1/491): "قال عباس العنبري لأحمد: قال أبو
الحسن -يعني علي بن المديني- لم يسمع قتادة هذا إلا من عبدالكريم، قال أحمد: كأن
علي بن المديني قد عرف الحديث".
وقال
الحافظ في إتحاف المهرة (11/720): "قد بين ابن المديني علة هذا الحديث، فقال:
لم يسمعه قتادة إلا من عبدالكريم".
وقال
في التلخيص (1/274): "لم يسمعه ابن عيينة من سعيد، ولا قتادة من حسان".
ولهذا
حكم الإمام البخاري بعدم صحة حديث سعيد بن أبي عروبة، فقال في التاريخ الكبير
(3/31): "وروى ابن عيينة، عن عبدالكريم، قال حسان بن بلال، عن عمار رضي الله
عنه ... ولم يسمع عبدالكريم من حسان، وقال ابن عيينة مرة: عن سعيد، عن قتادة، عن
حسان ... ولا يصح حديث سعيد".
أما
الإمام أحمد رحمه الله ففي كلام له جعل العهدة في الحديث على الحميدي أو الراوي
عنه.
قال
ابن دقيق العيد في الإمام (1/491): "وفيما رأيت من كتاب اختصار الخلال عن
مهنا قلت لأحمد: حدثوني عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن
قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه ... قال أبو عبدالله: إما أن يكون
الحميدي اختلط أو أن يكون الذي حدث عنه خلط، قلت: كيف؟ فحدثني أحمد قال: حدثنا
سفيان، عن عبدالكريم، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه بهذا الحديث".
وهذا
الوجه قد رواه جماعة عن ابن عيينة: رواه ابن أبي شيبة، والدورقي، وأبو خيثمة، وابن
أبي عمر، أبو داود الطيالسي، وعبدالرزاق، والقاسم بن سلام، وهارون بن معروف، ومحمد
بن الصباح، ومحمد بن أبان البلخي، ومحمد بن عيسى الدامغاني، كلهم رووه عن ابن
عيينة، عن عبدالكريم بن أبي المخارق، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه.
وفيما
قاله الإمام أحمد رحمه الله نظر من وجهين:
الوجه
الأول: أن الحميدي روى هذا الوجه أيضًا.
الوجه
الثاني: أنه قد توبع على الوجه الأول كما سبق بيانه، وقد توبع أيضًا بشر بن موسى
الراوي عنه، فقد رواه عن الحميدي: يعقوب بن سفيان الفسوي، فبرأت ساحتهما من جنايته.
قال
ابن دقيق العيد: "وقد تقدم رواية ابن أبي عمر، عن سفيان كما ذكر لأحمد عن
الحميدي، فخرج الحميدي والراوي عنه عن العهدة".
وقال
مغلطاي في شرح سنن ابن ماجه (1/413): "وفي عصبه الجناية برأس الحميدي أو
الراوي عنه نظر، لما أسلفنا من عند ابن أبي عمر، وهو كاف في الرد عليه".
ورواية
عبدالكريم بن أبي المخارق، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه، معلولة أيضًا،
فإنه فوق كون عبدالكريم متكلم فيه فهو لم يسمعه من حسان.
قال
الترمذي في السنن (1/81): "وسمعت إسحاق بن منصور يقول: قال أحمد بن حنبل: قال
ابن عيينة: لم يسمع عبدالكريم من حسان بن بلال حديث التخليل".
قال
الحافظ في النكت الظراف (7/473): "رواه ابن المقرئ عن سفيان، عن عبدالكريم،
عمن يحدث عن حسان".
تنبيه:
وقع
في المستدرك خطآن:
الأول:
قوله (حدثنا سفيان عن عبدالكريم الجزري)، وهذا وهم من قائله.
قال
الحافظ في إتحاف المهرة (11/720): "وما وقع عنده في نسب عبدالكريم وهم، وإنما
هو أبو أمية، وقد ضعفه الجمهور".
الثاني:
قوله فيه (قال سفيان: وحدثنا سعيد بن أبي عروبة)
أقول:
الحديث أخرجه الحاكم من عند الحميدي وابن أبي عمر وهما قد روياه بالعنعنة، وقد ذكر
مغلطاي في شرح سنن ابن ماجه (1/410) نص رواية ابن أبي عمر كما في مسنده، وكذلك هو
في كتب التخريج السابق ذكرها كلها بالعنعنة، وهذا يدل على أن قوله (وحدثنا سعيد بن
أبي عروبة) خطأ.
وقد
اغتر به مغلطاي في شرح ابن ماجه (1/414) فرد على أبي حاتم كلامه.
مثال
أخر: ما رواه ابن عيينة، عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي، عن عبدالله بن أبي أوفى رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أحب عباد الله إلى الله
عز وجل الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله عز وجل).
أخرجه:
حسين بن الحسن المروزي في زوائد الزهد لابن المبارك واللفظ له (366)، والبزار في
البحر الزخار (8/283)، والطبراني في الدعاء عن زكريا الساجي (3/1547)، وابن شاهين
في الأفراد عن يحيى بن صاعد (نتائج الأفكار 1/314)، والمخلص في جزء فيه سبعة مجالس
عنه (43)، والحاكم في المستدرك من طريق بشر بن موسى (1م306)، وأبو نعيم في الحلية
من طريق أبي بكر بن أبي عاصم (7/210)، والبيهقي في السنن الكبير من طريق بشر بن
موسى (1/379)، والبغوي في شرح السنة من طريق الساجي (2/246)، والضياء في المختارة
من طريق ابن صاعد وطريق ابن أبي عاصم وطريق الساجي (13/104)، وابن النجار في ذيل
تاريخ بغداد من طريق ابن صاعد (1/196)، والحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار من طريقه
(1/314)، كلهم عن عبدالجبار بن العلاء، عن سفيان به مرفوعًا.
وصرح
الحسين بن الحسن المروزي بالتحديث بين سفيان ومسعر.
وتابع
عبدالجبار: يحيى بن أبي بكير الكرماني، فرواه عن سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن
إبراهيم السكسكي به مرفوعًا.
أخرجه:
الحسين بن الحسن المروزي في زوائد الزهد عن محمد بن حميد (367)، والبزار عن محمد
بن الوليد بن أبان (8/283)، كلاهما عن يحيى بن أبي بكير، عن سفيان به.
وخالفهما:
هارون بن معروف، فرواه عن سفيان، عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي، عن ابن أبي أوفى
رضي الله عنه قال: (خيار عباد الله الذين يحبون الله، الذين يحببون الله إلى
عباده، الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة والنجوم لذكر الله).
أخرجه:
ابن أبي الدنيا في الأولياء (موسوعة ابن أبي الدنيا 1/608)، قال: حدثنا هارون بن
معروف، قال: حدثنا سفيان، عن مسعر به موقوفًا.
وخالف
سفيان: عبدالله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وجعفر بن عون، ومحمد بن سابق، فرووه
عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي قال: حدثنا أصحابنا، عن أبي الدرداء رضي الله عنه
قال: (إن شئتم لأقسمن لكم: إن أحب العباد إلى الله الذين يحبون الله، ويحببون الله
إلى عباده، والذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله).
أخرجه:
ابن المبارك في الزهد (367)، وابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع واللفظ له (19/355)،
وأبو إسحاق الختلي في المحبة لله عن محمد بن سابق (48)، والحاكم في المستدرك من
طريق ابن المبارك (1/307)، والبيهقي في السنن الكبير من طريق جعفر بن عون (1/379)،
كلهم عن مسعر به.
الكلام
على الروايات:
أولاً:
المحفوظ عن ابن عيينة هي رواية عبدالجبار بن العلاء، وأما رواية هارون بن معروف
فهي خطأ.
ثانيًا:
الحديث رواه البزار، وزكريا الساجي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وبشر بن موسى، وأبو
بكر بن أبي عاصم كلهم، عن العلاء ين عبد الجبار، عن ابن عيينة، عن مسعر، وخالفهم
حسين بن الحسن المروزي فصرح بالسماع بين ابن عيينة ومسعر وهو خطأ منه، وتابع
الجماعة على روايته معنعنًا: يحيى بن أبي بكير وهارون بن معروف.
ثالثًا:
الحديث قيل: تفرد به إبراهيم السكسكي.
قال
الساجي (تهذيب التهذيب 1/125): "تفرد بحديثه عن ابن أبي أوفى مرفوعًا (خير
عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر)".
وقيل:
تفرد به ابن عيينة عن مسعر مرفوعًا.
قال
الدراقطني في الأفراد (أطراف 4/178): "تفرد به سفيان بن عيينة، عن مسعر عنه،
وهو غريب عنه، رواه يحيى بن أبي بكير الكرماني، عن ابن عيينة مثله، وتفرد به محمد
بن حميد الرازي عنه، وروي عن محمد بن محمد بن إدريس الشافعي، عن ابن عيينة
نحوه".
وقال
ابن شاهين: "تفرد به سفيان بن عيينة، عن مسعر، ما حدث به عنه غيره، وهو حديث
غريب صحيح حسن! قد حدث به عن ابن عيينة: يحيى بن أبي بكير الكرماني".
وقال
أبو نعيم في الحلية (7/210): "تفرد به سفيان، عن مسعر برفعه، ورواه خلاد
وغيره، عن مسعر موقوفًا".
قال
الحافظ في نتائج الأفكار: "وذكر الدارقطني في الأفراد أن الراوي له عن يحيى
ضعيف".
يقصد
بذلك رحمه الله محمد بن حميد الرازي، لكنه لم يتفرد به عن الكرماني، بل تابعه محمد
بن الوليد بن أبان شيخ البزار.
وقيل:
تفرد به عبدالجبار بن العلاء.
قال
البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه عن مسعر
بهذا الإسناد إلا سفيان بن عيينة، ومحمد بن الوليد الذي حدثنا بهذا الحديث لا نعلم
أحدًا تابعه على روايته عن يحيى بن أبي بكير، عن ابن عيينة، والحديث إنما يعرف
لعبد الجبار".
وقال
البيهقي: "تفرد به عبدالجبار بن العلاء بإسناده هكذا، وهو ثقة".
رابعًا:
رواية ابن عيينة صححها ابن شاهين كما سبق.
وقال
الحاكم: "هذا إسناد صحيح، وعبدالجبار العطار ثقة، وقد احتج البخاري بإبراهيم
السكسكي، وإذا صح مثل هذه الاستقامة لم يضره توهين من أفسد إسناده".
وقال
بعد رواية ابن المبارك: "وهذا لا يفسد الأول، ولا يعلله، فإن ابن عيينة حافظ
ثقة، وكذلك ابن المبارك، إلا أنه أتى بأسانيد أخر كمعنى الحديث الأول".
أقول:
بل الحديث معلول، وعندي أن العلة فيه من عنعنة ابن عيينة، وقد سبق من كلام
الكرابيسي أن ابن عيينة يدلس عن مسعر.
قال
البزار: "والصحيح الذي روي عن مسعر، عن إبراهيم، عن رجل، عن أبي الدرداء رضي
الله عنه موقوفًا".
وقال
الحافظ في نتائج الأفكار: "قال الحاكم: (صحيح على شرط البخاري)، قلت: كلا،
فلم يخرج البخاري لعبدالجبار، ثم هو معلول، وإن كان رجاله رجال الصحيح، فقدر رواه
عبدالله بن المبارك، عن مسعر، عن السكسكي، ثنا أصحابنا، عن أبي الدرداء رضي الله
عنه ... فذكره موقوفًا من قوله، وقد اعترف الحاكم بهذه العلة، لكن قال: إنها لا
تؤثر، والله أعلم".
وهذا
عندي أولى من توهيم عبدالجبار بن العلاء، فقد وثقه النسائي والبيهقي كما سبق.
وقال
سلمة بن شبيب (تهذيب الكمال 16/392): "عن أحمد: رأيته عند بابن عيينة حسن
الأخذ".
واعترض
العلامة الألباني رحمه الله على البزار في تصحيحه الموقوف في السلسلة الصحيحة
(7/1300)، فقال: "لا وجه لهذا التصحيح، فقد رأيت أن مدار المرفوع والموقوف
على إبراهيم السكسكي، فإن كان حجة فالأمر كما قال الحاكم (الموقوف لا يفسد
المرفوع)، لأن الإسناد إليه بكل منهما صحيح فتأمل".
أقول:
ليس الشأن في حديث السكسكي عليه، بل الشأن في الاختلاف على مسعر الراوي عنه، فقد
خالف ابن عيينة في الرواية عنه جماعة الثقات، والحديث قد أعله الحافظان البزار
وابن حجر رحمهما الله.
خامسًا:
الرواية المحفوظة عن مسعر ضعيفة من وجهين:
الوجه
الأول: في سندها أصحاب السكسكي وهم مجاهيل.
الوجه
الثاني: فيها إبراهيم بن عبدالرحمن بن إسماعيل السكسكي متكلم فيه.
قال
علي بن المديني (الجرح والتعديل 2/111): "سمعت يحيى بن سعيد قال:كان شعبة يضعف
إبراهيم السكسكي، وقال: كان لا يحسن يتكلم".
وقال
النسائي في الضعفاء (44): "ليس بذاك القوي".
وقال
الحاكم في سؤالاته (178): "قلت لعلي بن عمر: إبراهيم السكسكي لم ترك مسلم
حديثه؟ قال: تكلم فيه يحيى بن سعيد، قلت: بحجة؟ قال: هو ضعيف، قلت: لعل مسلم لم
يحتج إليه ضرورة".
وقال
الحافظ في التقريب (111): "صدوق، ضعيف الحفظ".
قال
ابن القطان الفاسي في بيان الوهم الإيهام (3/306): "والإسناد الثاني لا يسأل
عمن فوق عبدالجبار، وإن كان قوم قد ضعفوا إبراهيم السكسكي، فلم يأتوا بحجة، وهو
ثقة، وقد أخرج له البخاري".
قال
الحافظ في التلخيص (1/386): "وفيه إبراهيم السكسكي وهو من رجال البخاري، لكنه
عيب عليه إخراج حديثه".
تنبيه:
نقل
الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار كلمة ابن شاهين فقال: "قال ابن شاهين: هذا
حديث صحيح غريب، تفرد به ابن عيينة، عن مسعر، وما رواه ثقة عنه إلا عبدالجبار،
وروي عن يحيى بن بكير -هكذا في المطبوع- عن ابن عيينة".
هكذا
جاءت كلمة ابن شاهين عند الحافظ، وأظن أنه رحمه الله نقلها من حفظه، فهي تعطي أن
ابن شاهين يرى أن رواية الكرماني خطأ، بخلاف كلمته التي نقلها عنه الضياء المقدسي
والألباني، فليس فيها تعرض لرواية الكرماني.