الأربعاء، 5 أكتوبر 2022

عنعنة ابن عيينة وأثرها في الحكم على الحديث

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

عنعنة ابن عيينة وأثرها في  الحكم على الحديث:

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته والتابعين.

 

أما بعد:

فمما لا شك فيه ولا ريب إمامة سفيان بن عيينة رحمه الله، فهو جبل من جبال الدين، وإمام من أئمة المسلمين، صان الله به الملة، وحفظ به السنة.

قال عنه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/252): "ومنهم الإمام الأمين، ذو العقل الرصين، والرأي الراجح الركين، المستنبط للمعاني، والمرتبط للمباني، أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي، كان عالمًا ناقدًا، وزاهدًا عابدًا، علمه مشهور، وزهده معمور".

وقال الإمام الذهبي في سيره (8/454): "الإمام الكبير، حافظ العصر، شيخ الإسلام".

ومع هذه المنزلة العظيمة، والمرتبة الرفيعة التي حازها هذا الإمام الكبير، فقد وصفه بعض أهل العلم بالتدليس.

قال يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/633): حدثني الفضل بن زياد، عن أحمد قال: "قد دلس قوم، ثم ذكر الأعمش، قال: كان هشيم يكثر -يعني التدليس- وسفيان بن عيينة أيضًا".

وقال الزركشي في النكت على كتاب ابن الصلاح (2/72): "قال الكرابيسي: دلس ابن عيينة عن مثل: معمر، ومسعر بن كدام، ومالك بن مغول".

وقال النسائي في ذكر أسماء المدلسين (121): "ذكر المدلسين: الحسن وقتادة وحميد الطويل ... وابن عيينة".

وقال الحاكم في المخل إلى الإكليل (113): "وسفيان بن عيينة مشهور سماعه منهما جميعًا، إلا أنه لم يذكر السماع في هذه الرواية، وقد عرف بأنه يدلس فيما يفوته سماعه".

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (114): "وصفه النسائي وغيره بالتدليس". 

لكنهم جعلوه من المدلسين الذين لا يدلسون إلا عن الثقات.

قال الدارقطني في سؤالات الحاكم (175): "فأما ابن عيينة، فإنه لا يدلس إلا عن الثقات".

وهؤلاء الصنف من المدلسين عند بعضهم تقبل عنعنتهم، ولا يشترط أن يصرحوا بالسماع.

قال أبو الفتح الأزدي الحافظ (الكفاية 2/387): "قد كره أهل العلم بالحديث مثل شعبة وغيره التدليس في الحديث، وهو قبيح ومهانة، والتدليس على ضربين: فإن كان تدليسًا عن ثقة لم يحتج أن يوقف على شيء وقبل منه، ومن كان يدلس عن غير ثقة لم يقبل منه الحديث إذا أرسله حتى يقول: حدثني فلان أو سمعت، فنحن نقبل تدليس ابن عيينة ونظرائه، لأنه يحيل على مليء ثقة ... وابن عيينة إذا وقفته قال: عن ابن جريج ومعمر ونظرائهما".

وقال ابن عبدالبر في التمهيد (1/21): "وكذلك من عرف بالتدليس المجتمع عليه، وكان من المسامحين في الأخذ عن كل أحد، لم يحتج بشيء مما رواه حتى يقول: أخبرنا أو سمعت، هذا إذا كان عدلاً ثقة في نفسه، وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة استغني عن توقيفه، ولم يسأل عن تدليسه".

قال (1/29): "قالوا: ويقبل تدليس ابن عيينة، لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظرائهما".  

وقال ابن حبان في مقدمة صحيحه (1/161): "وأما المدلسون الذين هم ثقات وعدول، فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بينوا السماع فيما رووا، مثل: الثوري، والأعمش، وأبي إسحاق وأضرابهم من الأئمة المتقين، وأهل الورع في الدين، لأنا متى قبلنا خبر مدلس لم يبين السماع فيه وإن كان ثقة لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل كلها، لأنه لا يدري لعل هذا المدلس دلس هذا الخبر عن ضعيف يهي الخبر بذكره إذا عرف، اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلا عن ثقة، فإذا كان كذلك قبلت روايته وإن لم يبين السماع، وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده، فإنه كان يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه إلا وجد الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه، والحكم في قبول روايته لهذه العلة وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن عباس رضي الله عنهما إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع منه".

لذا جعله الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس في المرتبة الثانية من المدلسين (114)، وقال عنهم (62): "من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح، وذلك لإمامته، وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة".

 

·           التعقبات على الكلام السابق:

أولاً: كلام أبي الفتح الأزدي حيث قال: (فإن كان تدليسًا عن ثقة لم يحتج أن يوقف على شيء وقبل منه).

وتابعه عليه ابن عبدالبر رحمه الله فقال: (وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة استغني عن توقيفه، ولم يسأل عن تدليسه).

وهو معنى كلام ابن حبان حيث قال: (فإذا كان كذلك قبلت روايته وإن لم يبين السماع).

وكلام هؤلاء الأئمة صحيح، ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه (الفتح 6/567): حدثني الحسن بن صباح البزار، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه).

قال الحميدي في مسنده بعد أن أخرجه (1/120): "لم يسمعه سفيان من الزهري".

والحديث قد رواه عن ابن عيينة: الحسن بن الصباح، وزهير بن معاوية، والحميدي، وإسماعيل بن إبراهيم عنه، عن الزهري معنعنًا، ولم أقف على الواسطة التي بين سفيان والزهري في الحديث من خلال تتبع طرقه، على أن الحديث صحيح عن الزهري، قد رواه عنه يونس بن يزيد الأيلي، وأخرجه البخاري من روايته معلقًا عقب رواية سفيان، فلعله رحمه الله يريد أن يشير إلى أن سفيان قد يكون أخذه عنه، والبخاري أخرج الحديث في الشواهد، وهو يخرج فيها ما ليس من شرطه.

قال ابن حجر في الفتح (3/230): "قوله (عن أبي الأسود) ... ولم أره من رواية عبدالله بن بريدة عنه إلا معنعنًا، وقد حكى الدارقطني في كتاب التتبع عن على بن المديني أن بن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث (سمعت أبا الأسود)، قلت: وابن بريدة ولد في عهد عمر رضي الله عنه، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفى بالمعاصرة، فلعله أخرجه شاهدًا واكتفى للأصل بحديث أنس رضي الله عنه الذي قبله، والله أعلم".

والعجب من الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/578) لم يتعرض لعلة حديث سفيان لا من قريب ولا من بعيد.

مثال أخر:

ما رواه ابن خزيمة في صحيحه (4/77)، قال: حدثنا أحمد بن عبدة، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح).

قال الحميدي في مسنده (1/157): "قال سفيان: ولم أسمعه من الزهري".

فهؤلاء الأئمة قبلوا عنعنة سفيان رغم إن الحميدي بين أنه لم يسمعه من الزهري، فدل على أن هناك واسطة بينه وبين الزهري أخذ ابن عيينة الحديث منه.

 

كلام الأئمة السابق ليس على إطلاقه:

ومع صحة ما قاله هؤلاء الأئمة رحمهم الله في عنعنة من لا يدلس إلا عن ثقة، إلا أنه ليس على إطلاقه، فإنه إذا كان في الحديث ما يجب التوقف فيه، فإنه يفتش حينئذ عن حاله، فإن وجد من الرواة من يحمل عليه الخطأ وإلا جعل الحمل فيه على عنعنة الراوي الثقة المدلس، وهذا أولى بلا شك من توهيمه، أو توهيم الثقة الراوي عنه.

قال الزركشي في البحر المحيط (4/411): "ولا خلاف أن المرسِل إذا كان غير ثقة لا يقبل إرساله، فإن كان ثقة وعرف أنه يأخذ عن الضعفاء، فلا يحتج بما أرسله، سواء التابعي وغيره، وكذا من عرف بالتدليس المجمع عليه، حتى يصرح بالتحديث، وإن كان لا يروي إلا عن ثقة فمرسله وتدليسه هل يقبل؟ فيه خلاف".

مثاله: قال ابن أبي حاتم في العلل (6/348): " سألت أبي عن حديث رواه أبو بكر بن أبي عتاب الأعين، عن أبي صالح، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من مضر وبنى تميم، فقيل: من هو يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أويس القرني)؟ قال أبي: هذا الحديث ليس هو في كتاب أبي صالح عن الليث، نظرت في أصل الليث وليس فيه هذا الحديث، ولم يذكر أيضًا الليث في هذا الحديث خبر، ويحتمل أن يكون سمعه من غير ثقة ودلسه، ولم يروه غير أبي صالح".

ولهذا كان بعض الرواة يوقف ابن عيينة ويسأله عن سماعه.

قال الحميدي في مسنده (1/105): ثنا سفيان، قال: سمعت الزهري يحدث عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين لحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، قال أبو بكر: "وهذا مما لم يكن يحدث به سفيان قديمًا عن الزهري، فوقفناه عليه فقال: سمعته من الزهري".

وقال الإمام البخاري في صحيحه (الفتح 8/326): حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما ... "فقلت لسفيان: إسناده؟ فقال: حدثنا فشغله إنسان ولم يقل ابن جريج".

والأئمة رحمهم الله يعلقون بالعنعنة العلة إن كانت من غير مدلس، فكيف إذا كان الراوي مدلسًا وبان خطؤه في الحديث!.

قال المعلمي رحمه الله في مقدمة الفوائد المجموعة (8): "إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهره الصحة، فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست قادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر، فمن ذلك إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس".

ثم ضرب الأمثلة على ذلك فلتراجع.

ثانيًا: مؤاخذات على كلام ابن حبان رحمه الله:

أولاً: قوله (اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنه ما دلس قط إلا عن ثقة ... وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده).

قال ابن حجر في مراتب أهل التقديس (115): "كان يدلس، لكن لا يدلس إلا عن ثقة، وادعى ابن حبان بأن ذلك كان خاصًا به".

أقول: قد ثبت عن بعض الثقات أنهم لا يدلسون إلا عن ثقة كحميد الطويل، ويونس بن عبيد، وعبدالله بن أبي نجيح.

قال السخاوي في فتح المغيث (1/323): "وكذا قيل في حميد الطويل إنه لم يسمع من أنس رضي الله عنه إلا اليسير، وجل حديثه إنما هو عن ثابت عنه ولكنه يدلسه، فقال العلائي ردًا على من قال: (إنه لا يحتج من حديث حميد إلا بما صرح فيه) قد بين الواسطة فيها، وهو ثقة محتج به".

ثانيًا: قوله (والحكم في قبول روايته لهذه العلة وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن عباس رضي الله عنهما إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع منه).

أقول: لو قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي r لم يكن في حكمه، فكيف لو قال ذلك صحابي علم عدم سماعه ذلك الحديث من النبي r! والفرق بينهما بين واضح، فالصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول ثقات، لا تضر جهالتهم بحال، سواء ذكروا أم لم يذكروا، سموا أو لم يسموا، وعلى ذلك إجماع أهل الدين.

قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/260): "... وأما العلة الثانية، فباطلة أيضًا على أصل ابن حزم، وأصل سائر أهل الحديث، فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث، لثبوت عدالة جميعهم".

وقال النووي في إرشاد طلاب الحقائق (2/590): "للصحابة رضي الله عنهم بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، لكونهم عدولاً على الإطلاق بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع على تعديل جميعهم، ومن لابس الفتنة، فكذلك بإجماع من يعتد به".

ثالثًا: أن قوله (فإنه كان يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ...)

 أقول: قد بالغ رحمه الله في ذلك، فلو بان أن في الحديث علة فإنه والحالة هذه يعل الحديث بعنعنة ابن عيينة.

قال الحاكم في المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل (113): "وسفيان بن عيينة مشهور سماعه منهما جميعًا، إلا أنه لم يذكر السماع في هذه الرواية، وقد عرف بأنه يدلس فيما يفوته سماعه".

وقال السخاوي في فتح المغيث (1/322): "وجزم به أبو حاتم ابن حبان، وابن عبدالبر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة، وبالغ ابن حبان في ذلك حتى قال: إنه لا يوجد له تدليس قط إلا وجد بعينه قد بين سماعه فيه من ثقة، يعني كما قيل في سعيد بن المسيب".

 

 

الأمثلة على ذلك:

ما رواه ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية.

أخرجه: الحميدي في المسند (1/81)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ عنه (2/697)، والترمذي في السنن عن ابن أبي عمر (1/274)، وابن ماجه في سننه عنه (1/274)، والطبراني في الأوسط من طريق إبراهيم بن بشار الرمادي (3/37)، والحاكم في المستدرك من طريق الحميدي وطريق ابن أبي عمر (1/498)، وأبو نعيم في الحلية من طريق إبراهيم بن بشار (7/292)، والبيهقي في المعرفة من طريق الحميدي (1/302)، كلهم عن ابن عيينة به.

الكلام على هذه الرواية:

وهذا الحديث معلول، أعله أهل العلم:

أولاً: بعدم تصريح ابن عيينة بالسماع فيه.

قال ابن أبي حاتم في العلل له (1/487): "سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... في تخليل اللحية؟ قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن ابن أبي عروبة، قلت: صحيح؟ قال: لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث الخبر، وهذا أيضًا مما يوهنه".

قال ابن دقيق العيد في الإمام (1/490): "وفهمت من المكتوب ها هنا ما معناه: أن ابن عيينة لم يذكر في هذا الحديث السماع أو الخبر أو ما يقارب هذا، قال: "وهذا مما يوهنه"، قلت: أما كونه ليس في كتب ابن أبي عروبة فليس بالعلة القوية بانفراد، ولكن لعله يضمه إلى ما يقع لسفيان من تدليس أحيانًا، مع كونه لم يذكر السماع".

وقد تفرد به ابن عيينة عن ابن أبي عروبة قاله أبو حاتم والطبراني.

وقال أبو نعيم: "غريب من حديث سفيان، عن سعيد، تفرد به إبراهيم".

أقول: تابعه الحميدي وابن أبي عمر كما سبق بيانه في التخريج.

قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/103): "ولكن متابعة ابن أبي عمر له ترفع هذه العهدة".

ثانيًا: أن قتادة لم يسمع الحديث من حسان بن بلال.

قال مهنا (الإمام لابن دقيق العيد 1/491): "قال عباس العنبري لأحمد: قال أبو الحسن -يعني علي بن المديني- لم يسمع قتادة هذا إلا من عبدالكريم، قال أحمد: كأن علي بن المديني قد عرف الحديث".

وقال الحافظ في إتحاف المهرة (11/720): "قد بين ابن المديني علة هذا الحديث، فقال: لم يسمعه قتادة إلا من عبدالكريم".

وقال في التلخيص (1/274): "لم يسمعه ابن عيينة من سعيد، ولا قتادة من حسان".

ولهذا حكم الإمام البخاري بعدم صحة حديث سعيد بن أبي عروبة، فقال في التاريخ الكبير (3/31): "وروى ابن عيينة، عن عبدالكريم، قال حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه ... ولم يسمع عبدالكريم من حسان، وقال ابن عيينة مرة: عن سعيد، عن قتادة، عن حسان ... ولا يصح حديث سعيد".

أما الإمام أحمد رحمه الله ففي كلام له جعل العهدة في الحديث على الحميدي أو الراوي عنه.

قال ابن دقيق العيد في الإمام (1/491): "وفيما رأيت من كتاب اختصار الخلال عن مهنا قلت لأحمد: حدثوني عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه ... قال أبو عبدالله: إما أن يكون الحميدي اختلط أو أن يكون الذي حدث عنه خلط، قلت: كيف؟ فحدثني أحمد قال: حدثنا سفيان، عن عبدالكريم، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه بهذا الحديث".

وهذا الوجه قد رواه جماعة عن ابن عيينة: رواه ابن أبي شيبة، والدورقي، وأبو خيثمة، وابن أبي عمر، أبو داود الطيالسي، وعبدالرزاق، والقاسم بن سلام، وهارون بن معروف، ومحمد بن الصباح، ومحمد بن أبان البلخي، ومحمد بن عيسى الدامغاني، كلهم رووه عن ابن عيينة، عن عبدالكريم بن أبي المخارق، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه.

وفيما قاله الإمام أحمد رحمه الله نظر من وجهين:

الوجه الأول: أن الحميدي روى هذا الوجه أيضًا.

الوجه الثاني: أنه قد توبع على الوجه الأول كما سبق بيانه، وقد توبع أيضًا بشر بن موسى الراوي عنه، فقد رواه عن الحميدي: يعقوب بن سفيان الفسوي، فبرأت ساحتهما من جنايته.

قال ابن دقيق العيد: "وقد تقدم رواية ابن أبي عمر، عن سفيان كما ذكر لأحمد عن الحميدي، فخرج الحميدي والراوي عنه عن العهدة".

وقال مغلطاي في شرح سنن ابن ماجه (1/413): "وفي عصبه الجناية برأس الحميدي أو الراوي عنه نظر، لما أسلفنا من عند ابن أبي عمر، وهو كاف في الرد عليه".

ورواية عبدالكريم بن أبي المخارق، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه، معلولة أيضًا، فإنه فوق كون عبدالكريم متكلم فيه فهو لم يسمعه من حسان.

قال الترمذي في السنن (1/81): "وسمعت إسحاق بن منصور يقول: قال أحمد بن حنبل: قال ابن عيينة: لم يسمع عبدالكريم من حسان بن بلال حديث التخليل".

قال الحافظ في النكت الظراف (7/473): "رواه ابن المقرئ عن سفيان، عن عبدالكريم، عمن يحدث عن حسان".

تنبيه:

وقع في المستدرك خطآن:

الأول: قوله (حدثنا سفيان عن عبدالكريم الجزري)، وهذا وهم من قائله.

قال الحافظ في إتحاف المهرة (11/720): "وما وقع عنده في نسب عبدالكريم وهم، وإنما هو أبو أمية، وقد ضعفه الجمهور".

الثاني: قوله فيه (قال سفيان: وحدثنا سعيد بن أبي عروبة)

أقول: الحديث أخرجه الحاكم من عند الحميدي وابن أبي عمر وهما قد روياه بالعنعنة، وقد ذكر مغلطاي في شرح سنن ابن ماجه (1/410) نص رواية ابن أبي عمر كما في مسنده، وكذلك هو في كتب التخريج السابق ذكرها كلها بالعنعنة، وهذا يدل على أن قوله (وحدثنا سعيد بن أبي عروبة) خطأ.

وقد اغتر به مغلطاي في شرح ابن ماجه (1/414) فرد على أبي حاتم كلامه.

مثال أخر: ما رواه ابن عيينة، عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي، عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أحب عباد الله إلى الله عز وجل الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله عز وجل).

أخرجه: حسين بن الحسن المروزي في زوائد الزهد لابن المبارك واللفظ له (366)، والبزار في البحر الزخار (8/283)، والطبراني في الدعاء عن زكريا الساجي (3/1547)، وابن شاهين في الأفراد عن يحيى بن صاعد (نتائج الأفكار 1/314)، والمخلص في جزء فيه سبعة مجالس عنه (43)، والحاكم في المستدرك من طريق بشر بن موسى (1م306)، وأبو نعيم في الحلية من طريق أبي بكر بن أبي عاصم (7/210)، والبيهقي في السنن الكبير من طريق بشر بن موسى (1/379)، والبغوي في شرح السنة من طريق الساجي (2/246)، والضياء في المختارة من طريق ابن صاعد وطريق ابن أبي عاصم وطريق الساجي (13/104)، وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد من طريق ابن صاعد (1/196)، والحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار من طريقه (1/314)، كلهم عن عبدالجبار بن العلاء، عن سفيان به مرفوعًا.

وصرح الحسين بن الحسن المروزي بالتحديث بين سفيان ومسعر.

وتابع عبدالجبار: يحيى بن أبي بكير الكرماني، فرواه عن سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي به مرفوعًا.

أخرجه: الحسين بن الحسن المروزي في زوائد الزهد عن محمد بن حميد (367)، والبزار عن محمد بن الوليد بن أبان (8/283)، كلاهما عن يحيى بن أبي بكير، عن سفيان به.

وخالفهما: هارون بن معروف، فرواه عن سفيان، عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي، عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (خيار عباد الله الذين يحبون الله، الذين يحببون الله إلى عباده، الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة والنجوم لذكر الله).

أخرجه: ابن أبي الدنيا في الأولياء (موسوعة ابن أبي الدنيا 1/608)، قال: حدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا سفيان، عن مسعر به موقوفًا.

وخالف سفيان: عبدالله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وجعفر بن عون، ومحمد بن سابق، فرووه عن مسعر، عن إبراهيم السكسكي قال: حدثنا أصحابنا، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (إن شئتم لأقسمن لكم: إن أحب العباد إلى الله الذين يحبون الله، ويحببون الله إلى عباده، والذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله). 

أخرجه: ابن المبارك في الزهد (367)، وابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع واللفظ له (19/355)، وأبو إسحاق الختلي في المحبة لله عن محمد بن سابق (48)، والحاكم في المستدرك من طريق ابن المبارك (1/307)، والبيهقي في السنن الكبير من طريق جعفر بن عون (1/379)، كلهم عن مسعر به.

الكلام على الروايات:

أولاً: المحفوظ عن ابن عيينة هي رواية عبدالجبار بن العلاء، وأما رواية هارون بن معروف فهي خطأ.

ثانيًا: الحديث رواه البزار، وزكريا الساجي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وبشر بن موسى، وأبو بكر بن أبي عاصم كلهم، عن العلاء ين عبد الجبار، عن ابن عيينة، عن مسعر، وخالفهم حسين بن الحسن المروزي فصرح بالسماع بين ابن عيينة ومسعر وهو خطأ منه، وتابع الجماعة على روايته معنعنًا: يحيى بن أبي بكير وهارون بن معروف.

ثالثًا: الحديث قيل: تفرد به إبراهيم السكسكي.

قال الساجي (تهذيب التهذيب 1/125): "تفرد بحديثه عن ابن أبي أوفى مرفوعًا (خير عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر)".

وقيل: تفرد به ابن عيينة عن مسعر مرفوعًا.

قال الدراقطني في الأفراد (أطراف 4/178): "تفرد به سفيان بن عيينة، عن مسعر عنه، وهو غريب عنه، رواه يحيى بن أبي بكير الكرماني، عن ابن عيينة مثله، وتفرد به محمد بن حميد الرازي عنه، وروي عن محمد بن محمد بن إدريس الشافعي، عن ابن عيينة نحوه".

وقال ابن شاهين: "تفرد به سفيان بن عيينة، عن مسعر، ما حدث به عنه غيره، وهو حديث غريب صحيح حسن! قد حدث به عن ابن عيينة: يحيى بن أبي بكير الكرماني".

وقال أبو نعيم في الحلية (7/210): "تفرد به سفيان، عن مسعر برفعه، ورواه خلاد وغيره، عن مسعر موقوفًا".

قال الحافظ في نتائج الأفكار: "وذكر الدارقطني في الأفراد أن الراوي له عن يحيى ضعيف".

يقصد بذلك رحمه الله محمد بن حميد الرازي، لكنه لم يتفرد به عن الكرماني، بل تابعه محمد بن الوليد بن أبان شيخ البزار.

وقيل: تفرد به عبدالجبار بن العلاء.

قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه عن مسعر بهذا الإسناد إلا سفيان بن عيينة، ومحمد بن الوليد الذي حدثنا بهذا الحديث لا نعلم أحدًا تابعه على روايته عن يحيى بن أبي بكير، عن ابن عيينة، والحديث إنما يعرف لعبد الجبار".

وقال البيهقي: "تفرد به عبدالجبار بن العلاء بإسناده هكذا، وهو ثقة".

رابعًا: رواية ابن عيينة صححها ابن شاهين كما سبق.

وقال الحاكم: "هذا إسناد صحيح، وعبدالجبار العطار ثقة، وقد احتج البخاري بإبراهيم السكسكي، وإذا صح مثل هذه الاستقامة لم يضره توهين من أفسد إسناده".

وقال بعد رواية ابن المبارك: "وهذا لا يفسد الأول، ولا يعلله، فإن ابن عيينة حافظ ثقة، وكذلك ابن المبارك، إلا أنه أتى بأسانيد أخر كمعنى الحديث الأول".

أقول: بل الحديث معلول، وعندي أن العلة فيه من عنعنة ابن عيينة، وقد سبق من كلام الكرابيسي أن ابن عيينة يدلس عن مسعر.

قال البزار: "والصحيح الذي روي عن مسعر، عن إبراهيم، عن رجل، عن أبي الدرداء رضي الله عنه موقوفًا".

وقال الحافظ في نتائج الأفكار: "قال الحاكم: (صحيح على شرط البخاري)، قلت: كلا، فلم يخرج البخاري لعبدالجبار، ثم هو معلول، وإن كان رجاله رجال الصحيح، فقدر رواه عبدالله بن المبارك، عن مسعر، عن السكسكي، ثنا أصحابنا، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ... فذكره موقوفًا من قوله، وقد اعترف الحاكم بهذه العلة، لكن قال: إنها لا تؤثر، والله أعلم".

وهذا عندي أولى من توهيم عبدالجبار بن العلاء، فقد وثقه النسائي والبيهقي كما سبق.

وقال سلمة بن شبيب (تهذيب الكمال 16/392): "عن أحمد: رأيته عند بابن عيينة حسن الأخذ".

واعترض العلامة الألباني رحمه الله على البزار في تصحيحه الموقوف في السلسلة الصحيحة (7/1300)، فقال: "لا وجه لهذا التصحيح، فقد رأيت أن مدار المرفوع والموقوف على إبراهيم السكسكي، فإن كان حجة فالأمر كما قال الحاكم (الموقوف لا يفسد المرفوع)، لأن الإسناد إليه بكل منهما صحيح فتأمل".

أقول: ليس الشأن في حديث السكسكي عليه، بل الشأن في الاختلاف على مسعر الراوي عنه، فقد خالف ابن عيينة في الرواية عنه جماعة الثقات، والحديث قد أعله الحافظان البزار وابن حجر رحمهما الله.

خامسًا: الرواية المحفوظة عن مسعر ضعيفة من وجهين:

الوجه الأول: في سندها أصحاب السكسكي وهم مجاهيل.

الوجه الثاني: فيها إبراهيم بن عبدالرحمن بن إسماعيل السكسكي متكلم فيه.

قال علي بن المديني (الجرح والتعديل 2/111): "سمعت يحيى بن سعيد قال:كان شعبة يضعف إبراهيم السكسكي، وقال: كان لا يحسن يتكلم".

وقال النسائي في الضعفاء (44): "ليس بذاك القوي".

وقال الحاكم في سؤالاته (178): "قلت لعلي بن عمر: إبراهيم السكسكي لم ترك مسلم حديثه؟ قال: تكلم فيه يحيى بن سعيد، قلت: بحجة؟ قال: هو ضعيف، قلت: لعل مسلم لم يحتج إليه ضرورة".

وقال الحافظ في التقريب (111): "صدوق، ضعيف الحفظ".

قال ابن القطان الفاسي في بيان الوهم الإيهام (3/306): "والإسناد الثاني لا يسأل عمن فوق عبدالجبار، وإن كان قوم قد ضعفوا إبراهيم السكسكي، فلم يأتوا بحجة، وهو ثقة، وقد أخرج له البخاري".

قال الحافظ في التلخيص (1/386): "وفيه إبراهيم السكسكي وهو من رجال البخاري، لكنه عيب عليه إخراج حديثه".

 

تنبيه:

نقل الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار كلمة ابن شاهين فقال: "قال ابن شاهين: هذا حديث صحيح غريب، تفرد به ابن عيينة، عن مسعر، وما رواه ثقة عنه إلا عبدالجبار، وروي عن يحيى بن بكير -هكذا في المطبوع- عن ابن عيينة".

هكذا جاءت كلمة ابن شاهين عند الحافظ، وأظن أنه رحمه الله نقلها من حفظه، فهي تعطي أن ابن شاهين يرى أن رواية الكرماني خطأ، بخلاف كلمته التي نقلها عنه الضياء المقدسي والألباني، فليس فيها تعرض لرواية الكرماني.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين.  

الأربعاء، 14 سبتمبر 2022

أنواع الأحاديث التي انتُقِدت على البخاري ومسلم إخراجها في صحيحيهما

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

وبعد

فهذا بحث في أنواع الأحاديث المنتقدة على البخاري ومسلم في صحيحيهما، فأقول مستعينًا بالله:

إن أحاديث الصحيحين من هذه الناحية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أحاديث وقع في أسانيدها أو متونها مخالفة بين رواتها وأخرج الشيخان الوجهين كليهما، أو أخرجا المنتقد مع بيان الصواب، أو أخرجاها مع بيان الخلاف فيها:

فمن النوع الأول:

قال الإمام البخاري رحمه الله: "حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن خازم، قال: حدثنا الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر النبي r بقبرين فقال: إنهما ليعذبان ...)، وأخرجه في موضع أخر فقال: "حدثنا عثمان، قال حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر النبي r بحائط من حيطان المدينة -أو مكة- فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما ...)([1]).

ففي الإسناد الأول أدخل الأعمش بين مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما طاووسًا، وفي الإسناد الثاني خالفه منصور، فرواه عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما مباشرة، وهو محمول على أن البخاري يرى صحة الوجهين، فيكون مجاهد سمعه من طاووس، ثم سمعه من ابن عباس رضي الله عنهما([2]).

وقال الإمام مسلم: "وحدثني أبو الربيع الزهراني وأبو كامل الجحدري واللفظ لأبي كامل، قالا: حدثنا حماد -وهو ابن زيد-، حدثنا أيوب، عن محمد، عن عبدالرحمن بن بشر بن مسعود رده إلى أبي سعيد الخدري t قال: سئل النبي r عن العزل؟ فقال: (لا عليكم أن تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر).

وقال: "وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون، عن محمد، عن عبدالرحمن بن بشر الأنصاري قال: فرد الحديث حتى رده إلى أبي سعيد الخدري t ...".

وقال: "وحدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، قال: حدثت محمدًا عن إبراهيم بحديث عبدالرحمن بن بشر (يعني حديث العزل) فقال: إياي حدثه عبدالرحمن بن بشر".

وقال: "حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبدالأعلى، حدثنا هشام، عن محمد، عن معبد بن سيرين قال: قلنا لأبي سعيد t: (هل سمعت رسول الله r يذكر في العزل شيء ..)([3]).

في الإسناد الأول أخرجه الإمام مسلم عن ابن سيرين، عن عبدالرحمن بن بشر، وفي الإسناد الثاني أخرجه عن محمد عن أخيه معبد، فلعل الإمام مسلم برى صحة الوجهين عن ابن سيرين([4]).

قال الدراقطني: "لم يتابع هشام([5])، وخالفه: أيوب، وابن عون، عن محمد، عن عبدالرحمن بن بشر، عن أبي سعيد t، فلعل ابن سيرين حفظه عنهما والله أعلم، وأخرجها كلها مسلم".

ومن النوع الثاني:

قال الإمام البخاري: "حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن ابن عثمان بن عبدالله بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبى أيوب t (أن رجلاً قال للنبي r: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ...)، ثم قال: وقال بهز: حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن عثمان وأبوه عثمان بن عبدالله، أنهما سمعا موسى بن طلحة، عن أبى أيوب t ...) بهذا، قال أبو عبدالله([6]): أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، إنما هو عمرو([7])"([8]).

وقال الإمام مسلم: "حدثنا عبدالله بن مسلمة القعنبي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن حفص بن عاصم، عن عبدالله بن مالك ابن بحينة أن رسول الله r مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا نقول: ماذا قال لك رسول الله r؟ قال: قال لي: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا) قال القعنبي: (عبدالله بن مالك بن بحينة، عن أبيه)، قال أبو الحسين مسلم: وقوله (عن أبيه) في هذا الحديث خطأ"([9]).

ومن النوع الثالث:

قال البخاري رحمه الله: "حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح، قال: حدثنا أبو النضر، عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري t قال: خطب النبي r فقال: (إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله ...)([10]).

هكذا وقع في الصحيح عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، والمحفوظ عن عبيد بن حنين وبسر بن سعيد، فبسر قرينه في الحديث وليس شيخًَا له فيه([11]).

قال الحافظ: "وصرح بذلك البخاري فيما رواه أبو علي ابن السكن الحافظ في زوائده في الصحيح قال: أنبأنا الفربري قال: قال البخاري: (هكذا رواه محمد بن سنان، عن فليح، وإنما هو عن عبيد بن حنين وعن بسر بن سعيد) يعني بواو العطف، فقد أفصح البخاري بأن شيخه سقطت عليه الواو من هذا السياق، وأن من إسقاطها نشأ هذا الوهم، وإذا رجعنا إلى الإنصاف لم تكن هذه علة قادحة مع هذا الإيضاح"([12]).

وقال الحافظ: "قال الدارقطني: أخرج البخاري حديث الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي النبي r: (لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ...)، وقد اختلف فيه على الأوزاعي، فقال: عمرو بن أبي سلمة، والوليد بن مسلم وغيرهما عنه، عن يحيى، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبي سلمة زادوا رجلاً أهـ، وهذا القول فيه كالقول في الذي قبله، بل صرح الأوزاعي هنا بالتحديث عن يحيى، وصرح يحيى بالتحديث، عن أبي سلمة، فانتفت تهمة التدليس، والراوي له هكذا عنده عن الأوزاعي: عبدالله بن المبارك -وهو من الحفاظ المتقنين- ومع ذلك فالبخاري لم يهمل حكاية الخلاف في ذلك، بل ذكره تعليقًا"([13]).

وقال الإمام مسلم: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن حاتم ويعقوب بن إبراهيم واللفظ لأبي بكر، قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن محمد بن أبي بكر، عن عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله r لما تزوج أم سلمة رضي الله عنها أقام عندها ثلاثًا وقال: (إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي)، وقال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبدالله بن أبي بكر، عن عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن (أن رسول الله r حين تزوج أم سلمة رضي الله عنها ...).

وهذا مما اعترض عليه الدارقطني([14]).

وأجاب أبو علي الدمشقي عن اعتراضه فقال: "... إذا جوده ثقات وقصر به ثقات أيضًا وبينه، فلا يلزمه عيب في ذلك"([15]).

ومثله ما أخرجه الإمام مسلم قال: "حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، ح وحدثني عيسى بن حماد المصري، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، ح قال: وحدثني هارون بن عبدالله، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا الضحاك بن عثمان، ح قال: وحدثنا المقدمي، حدثنا يحيى -وهو القطان-، عن ابن عجلان، ح وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، حدثني أسامة بن زيد، ح قال: وحدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل -يعنون ابن جعفر- أخبرني محمد -وهو ابن عمرو-،  ح قال: وحدثني هناد بن السري، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق كل هؤلاء، عن إبراهيم بن عبدالله بن حنين، عن أبيه، عن علي t -إلا الضحاك وابن عجلان فإنهما زادا عن ابن عباس، عن علي y-، عن النبي r كلهم قالوا: (نهاني عن قراءة القرآن وأنا راكع)، ولم يذكروا في روايتهم النهي عنها في السجود كما ذكر الزهري، وزيد بن أسلم، والوليد بن كثير، وداود بن قيس. وحدثناه قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن عبدالله بن حنين، عن علي t، ولم يذكر في السجود. وحدثني عمرو بن علي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبدالله بن حنين، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (نهيت أن أقرأ وأنا راكع) لا يذكر في الإسناد عليًا t"([16]).

قال النووي: "ذكر مسلم الاختلاف على إبراهيم بن حنين في ذكر ابن عباس بين علي y وعبدالله بن حنين".

 

القسم الثاني: أحاديث أخرجاها وانتقد عليهما إخراجها إما من جهة السند أو من جهة المتن، مع ضعف الجواب عنها.

قال الدارقطني: "وأخرج البخاري حديث عبيدالله، عن نافع، عن ابن كعب، عن أبيه: (أن جارية لكعب ...)، وعن مالك، عن نافع، عن رجل من الأنصار، عن معاذ بن سعد -أو سعد بن معاذ-: (أن جارية لكعب ...)، وعن موسى، عن جويرية، عن نافع، عن رجل من بني سلمة أخبر عبدالله: (أن جارية لكعب ...)، وقال الليث: عن نافع سمع رجلاً من الأنصار خبر عبدالله (أن جارية لكعب...)، وهذا اختلاف بيّن وقد أخرجه، قال: وهذا قد اختلف فيه على نافع، وعلى أصحابه عنه، اختلف فيه على عبيدالله، وعلى يحيى بن سعيد، وعلى أيوب، وعلى قتادة، وعلى موسى بن عقبة، وعلى إسماعيل بن أمية، وعلى غيرهم فقيل: عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولا يصح، والاختلاف فيه كثير"([17]).

قال الحافظ: "هو كما قال، وعلته ظاهرة، والجواب عنه فيه تكلف وتعسف"([18]).

مثال أخر: قال البخاري: "حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء: عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان المشركون على منزلتين من النبي r ...)، وقال عطاء: عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كانت قريبة بنت أبى أمية عند عمر بن الخطاب t فطلقها، فتزوجها معاوية بن أبى سفيان ..)"([19]).

قال أبو مسعود الدمشقي: "هذا الحديث والذي قبله في تفسير ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، والبخاري ظنه ابن أبي رباح، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني، إنما أخذ الكتاب من ابنه اسمه عثمان بن عطاء، ونظر فيه وروى"([20]).

قال أبو علي الغساني: "وهذا تنبيه بديع من أبي مسعود رحمه الله، فقد روينا عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن علي بن المديني قال: (سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء -يعني ابن أبي رباح([21])- عن التفسير من البقرة وآل عمران ... ثم قال: اعفني من هذا، قال هشام: فكان بعد إذا قال عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الخراساني)، قال هشام: فكتبنا ما كتبنا، ثم مللنا -يعني كتْبنا أنه عطاء الخراساني([22])-، قال علي بن المديني: كتبت أنا هذه القصة، لأن محمد بن ثور كان يجعلها عن عطاء([23])، عن ابن عباس رضي الله عنهما، فظن الذين حملوها عنه أنه عطاء بن أبي رباح، قال علي: وسألت يحيى القطان عن حديث ابن جريج، عن عطاء الخراساني؟ فقال: ضعيف، فقلت ليحيى: إنه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، كله ضعيف، إنما هو من كتاب دفعه إليه"([24]).

قال ابن حجر([25]): "ففيه نوع اتصال، ولذلك استجاز ابن جريج أن يقول فيه: أخبرنا، لكن البخاري ما أخرجه إلا على أنه من رواية عطاء بن أبي رباح، وأما الخراساني فليس من شرطه، لأنه لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما، لكن لقائل أن يقول: هذا ليس بقاطع في أن عطاء المذكور هو الخراساني([26])، فإن ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضًا، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عن عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني جميعًا -والله أعلم- فهذا جواب إقناعي، وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولابد للجواد من كبوة([27])، والله المستعان".

مثال ثالث: قال الدارقطني: "أخرج مسلم، عن ابن نمير، عن أبي أسامة، عن حبيب بن الشهيد، عن عطاء، عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: (في كل صلاة قراءة، فما أسمعناه رسول الله r أسمعناكم)، قلت: وهذا لم يرفع أوله إلا أبو أسامة، خالفه: يحيى القطان، وسعيد بن أبي عروبة، وأبو عبيدة الحداد وغيرهم، رووه عن حبيب بن الشهيد، عن عطاء، عن أبي هريرة t قال: (في كل صلاة قراءة فما أسمعناه رسول الله r أسمعناكم)، جعلوا أول الحديث من قول أبي هريرة t وهو الصواب، وكذلك رواه قتادة، وأيوب، وحبيب المعلم، وابن جريج"([28]).

قال أبو مسعود الدمشقي: "هو لعمري كما ذكر، لا خلاف فيه (قال رسول الله r) إلا من رواية مسلم، عن ابن نمير من حديث أبي أسامة، فقد رواه الناس على الصواب عنه، ولم أره من حديث ابن نمير إلا عند مسلم، ولعل الوهم فيه من مسلم، أو من ابن نمير، أو من أبي أسامة لما حدث به ابن نمير، لأن هذا كله يحتمل ...".

القسم الثالث: وهذا خاص بالمتون، وهو على أنواع:

النوع الأول: ما كان من باب الراوية بالمعنى.

النوع الثاني: ما كان من باب تنوع اللفظ النبوي في القضية الواحدة، وذلك عند تعددها.

مثاله: ما أخرجه البخاري عن سعيد بن عفير([29])، ومسلم عن حرملة بن يحيى([30])، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أنس t بلفظ (قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن)، وفي رواية عند مسلم([31]) من طريق قتادة، عن أنس t بلفظ ( كما بين صنعاء والمدينة)، وفي رواية له (ما بين المدينة وعمان).

قال العلائي: "وأما اختلاف الأحاديث في تقدير مساحة الحوض -أوردنا الله أياه بفضله وكرمه- فالكلام عليه مشهور، وأحسن وجه قيل فيه: إن التقدير كان في كل وقت بحسب ما يفهم الحاضرون من المسافة مع تقارب ذلك، وأنه نحو شهر"([32]).

النوع الثالث: ما كان من باب المخالفة، وهي أحاديث وقع في متونها مخالفة بين رواتها، وأخرجاها على الخلاف، لكونه مما لا يقدح في صحة الخبر من حيث الجملة، وهذا النوع هو الذي عناه الحافظ بكلامه كما تدل عليه الأمثلة التي ساقها، ويقع في: الأسماء، والأعداد، ونوع الجنس، والأثمان ونحوها، فمن ذلك:

 

 

 

ما وقع فيه الخلاف في الأسماء:

ما أخرجه البخاري([33])، ومسلم([34])، كلاهما من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي r كان يمكث عند زينب بنت جحش رضي الله عنها فيشرب عسلاً)، وأخرجاه من رواية هشام بن عروة، عن عروة، عنها رضي الله عنها قالت: ( ... فدخل على حفصة رضي الله عنها فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك؟ فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت رسول الله r ...) الحديث.

قال النووي: "قولها (فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش)، وفى الرواية التي بعدها أن شرب العسل كان عند حفصة رضي الله عنهما، قال القاضي: ذكر مسلم في حديث حجاج، عن ابن جريج أن التي شرب عندها العسل زينب، وأن المتظاهرتين عليه عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وكذلك ثبت في حديث عمر بن الخطاب وابن عباس y أن المتظاهرتين عائشة وحفصة، وذكر مسلم أيضًا من رواية أبى أسامة، عن هشام أن حفصة هي التي شرب العسل عندها، وأن عائشة وسودة وصفية رضي الله عنهن من اللواتي تظاهرن عليه، وقال: والأول أصح، قال النسائي: إسناد حديث حجاج صحيح جيد غاية، وقال الأصيلي: حديث حجاج أصح".

وقال النووي: "وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى"([35]).

ومثاله أيضًا: ما أخرجه البخاري([36])، ومسلم([37])، كلاهما من طريق يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه ... وفيه (فذهب عبدالرحمن ليتكلم قبل صاحبيه، فقال له رسول الله r: كبر ...)، وأخرجه البخاري([38])، ومسلم([39])، كلاهما من طريق مالك بن أنس، عن عبدالله بن عبدالرحمن، عن سهل أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه (... فذهب محيصة ليتكلم ... فقال له رسول الله r: كبر كبر ...).

ومما وقع فيه الخلاف في الأعداد:

ما أخرجه: البخاري([40])، ومسلم([41])، كلاهما من طريق طاووس، عن أبي هريرة t، عن النبي r قال: (قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ...)، وأخرجه البخاري من طريق الأعرج([42])، ومسلم من طريق طاووس([43])، كلاهما عن أبي هريرة t بلفظ (تسعين امرأة ..) الحديث.

ومما وقع فيه الخلاف في الأثمان:

ما أخرجه البخاري([44]) من طريق وهب بن كيسان، عن جابر t بلفظ (أبطأ علي جملي ... وفيه فاشتراه مني بأوقية)، ومن طريق عطاء بن رباح([45]) بلفظ (قد أخذته بأربعة دنانير)، ومن طريق أبي المتوكل الناجي([46]) بلفظ (أواق من ذهب)، ومن طريق محارب([47]) بلفظ (بوقيتين ودرهم أو درهمين)، وأخرجه مسلم([48]) من طريق عامر بلفظ (فبعته بوقية)، ومن طريق أبي الزبير([49]) بلفظ (فبعته منه بخمس أواق).

ومما وقع فيه الخلاف في نوع الجنس:

ما أخرجه الإمام مسلم([50]) من طريق هلال بن يساف، عن سويد بن غفلة t قال: (كنت سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا، فأمرنا رسول الله r أن نعتقها)، وفي رواية أبي شعبة العراقي عنه t (... وما لنا خادم غير واحد فعمد أحدنا فلطمه، فأمرنا رسول الله r أن نعتقه).

وهذا القسم هو الذي استدل الحافظ بوقوعه في الصحيحين على أنهما يخرجا في كتابيهما الصحيح والأصح، والحق أنها ليست من الصحيح، بل هي خطأ، وإنما أرادا أصل القصة، ووقعت تلك الألفاظ في سياقاتها تبعًا لا أصلاً.

قال أبو مسعود الدمشقي: "قال أبو الحسن([51]): وأخرج عن قتيبة، عن الدراوردي، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة t (خرجنا مع النبي r إلى خيبر ...)، وأخرجه البخاري أيضًا من حديث معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن مالك، عن ثور، عن سالم مولى ابن مطيع([52])، عن أبي هريرة t قال: ...، وقال موسى بن هارون: (وهم في هذا الحديث ثور بن يزيد، لأن أبا هريرة t لم يخرج مع النبي r، فإنما قدم المدينة بعد خروج النبي r إلى خيبر، وأدرك النبي r وقت فتح خيبر)، قال أبو مسعود: إنما أراد البخاري ومسلم من تبيين هذا الحديث قصة مِدْعَم في غلول الشملة التي لم تصبها المغانم، فإن النبي r قال: (إنها لتشتعل عليه نارًا)، وقد روى الزهري، عن عنبسة بن سعيد، عن أبي هريرة t قال: (أتيت النبي r خيبر بعدما استفتحها فقلت: أسهم لي ...)، ورواه أيضًا عمرو بن سعيد بن العاص، عن جده، عن أبي هريرة t، ولا يشك أحد من أهل العلم أن أبا هريرة t قال: (شهدت قسم النبي r غنائم خيبر هو وجعفر بن أبي طالب وجماعة من مهاجرة الحبشة y الذين قدموا في السفينة)، فإن كان ثور وهم في قوله (خرجنا)، فإن القصة المرادة من نفس الحديث صحيحة"([53]).

وعلى ذلك جرى تعليل الحافظ ابن حجر في أكثر من قصة، فقال: "والجواب عن ذلك أن المراد من الحديث أصل القصة"([54]).

وقال: "وكأن هذا القدر من الاختلاف لا يقدح في صحة الحديث، لأن المقصود منه ما وقع من بركته r في التمر، وقد حصل توافقهم عليه، ولا يترتب على تعيين تلك الصلاة بعينها كبير معنى"([55]).

وقال: "وقد تعقب النسائي أيضًا مالك، وموضع التعقب منه قوله (إلى قباء)، والجماعة كلهم قالوا: (العوالي)، ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة"([56]).

ومن ذلك ما وقع عند مسلم من صلاة النبي r على راحلته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، هكذا رواه نافع، وابن جبير، وعبدالله بن دينار، وسالم، ووقع في رواية سعيد بن يسار عنه t (رأيت رسول الله r يصلي على حمار ...).

قال النووي: "قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، قالوا: وإنما المعروف في صلاة النبي r على راحلته أو على البعير"([57]).

وقد يذكر البخاري ومسلم الروايات المختلفة في الباب ليبينا الوهم الواقع في بعضها، وهذا من باب التنبيه بالإشارة، وقد يصرحا - كما سبق- بوهم الراوي.

قال العلائي: "وكأن الشيخين رحمهما الله إنما أخرجا الحديث الأول مع بقية الأحاديث ليبينا ما في تلك الرواية من الوهم"([58]).

وقال ابن تيمية: "... (وأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشىء الله لها خلقًا فيسكنهم فضول الجنة) هكذا روي في الصحاح من غير وجه، ووقع في بعض طرق البخاري غلط قال فيه: (وأما النار فيبقى فيها فضل)، والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب ليبين غلط الراوي، كما جرت عادته بمثل ذلك إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ، ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب"([59]).

وهذه الأخطاء في المتون تقع عندهما كما يقع عندهما المرسل والمنقطع تبعًا للموصول، فهل يقال: أنهما يخرجا المرسل والمنقطع في صحيحيهما([60])؟!!.

قال الحافظ: "قال الدارقطني: أخرج البخاري حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع (أن عمر t أصاب جاريتين من سبي حنين)، وفي أوله (أن عمر t قال: نذرت نذرًا) هكذا أخرجه مرسلاً، ووصل حديث النذر حماد بن سلمة، وجرير بن حازم، وجماعة عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو صحيح، ووصل حديث الجاريتين جرير بن حازم، عن أيوب، وقول حماد أصح، قلت: إذا صح أصل الحديث صح قول من وصله، وقد بين البخاري الخلاف فيه، وقد قدمناه أنه في مثل هذا يعتمد على القرائن، والله الموفق"([61]).

وأئمة الحديث لا يشددون في أخطأ المتون وإن كانت علة عندهم، فيخرجونها مع التنبيه عليها تارة صريحًا، وتارة مع الإشارة.

قال ابن دقيق العيد: "وقد صحح بعضهم إسناد بعض طرقه، وهو أيضًا عندنا صحيح على طريقة الفقهاء، لأنه وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفًا فيه في بعض ألفاظه وهي علة عند المحدثين ..."([62]).

قال الحافظ وهو يعدد ما انتقده الأئمة على البخاري: "القسم السادس منها: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح، لإمكان الجمع في المختلف من ذلك، أو الترجيح، على أن الدارقطني وغيره من أئمة النقد لم يتعرضوا لاستيفاء ذلك من الكتابين كما تعرضوا لذلك في الإسناد"([63]).

وقال: "وأما رواية عمران بن حصين t، فرواها أبو داود، والترمذي، والبيهقي من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين t قال: (غزوت مع رسول الله r، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد صلوا أربعًا فإنا قوم سفر)، حسنه الترمذي، وعلي ضعيف، وإنما حسنه الترمذي لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة، كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق"([64]).

والحمد لله رب العالمين.

 



([1]) الصحيح (1/53، و54).

([2]) انظر: مقدمة فتح الباري (350).

([3]) الصحيح (4/158).

([4]) ومما يدل على صحة رواية هشام بن حسان أمور: أولها: أنه تابعه مجاعة بن الزبير في حديثه (49)، فرواه عن معبد به، ثانيها: أن للحديث أصلاً من رواية معبد، رواها شعبة عنه وقد أخرجها الإمام مسلم، ثالثها: إن هشام بن حسان من أثبت الناس في ابن سيرين، فهذا كله يدل على صحة رواية هشام، ولذا قال الدراقطني: فلعل ابن سيرين حفظه عنهما.

([5]) وقفت له على متابع، فقد رواه مجاعة بن الزبير في حديثه (49)، فلعل الدارقطني لم يعتد بها لكونه يرى ضعف مجاعة، أو أنه رحمه الله لم يستحضرها حال كتابته، والله أعلم.

([6]) يعني البخاري قاله الحافظ (3/265).

([7]) قال ابن حجر في الفتح (2/265): وجزم في التاريخ بذلك، وكذا مسلم في شيوخ شعبة.

([8]) صحيح البخاري (2/104، و105).

([9]) الصحيح (2/154).

([10]) الصحيح (1/101).

([11]) انظر: مقدمة فتح الباري (351).

([12]) مقدمة الفتح (351)، وانظر: الاختلاف بين رواة البخاري لابن المبرد (32).

([13]) مقدمة فتح الباري (354).

([14]) الإلزامات والتتبع (249).

([15]) جواب أبي مسعود الدمشقي لأبي الحسن الدارقطني عما بين غلط أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري (103).

([16]) الصحيح (2/49).

([17]) الإلزامات والتتبع (245).

([18]) مقدمة الفتح (376).

([19]) الصحيح (7/48).

([20]) انظر: تحفة الأشراف للمزي (5/90).

([21]) هكذا وقع في الفتح، وتفسيره بـ (ابن أبي رباح) هنا لا يستقيم مع قوله بعد ذلك (الخراساني)، وقوله (فظن الذين حملوها عنه أنه: عطاء بن أبي رباح)، وقد وردت القصة في الفتح (8/535) وليس فيها هذا التفسير، فلعل ما وقع هنا من النساخ.

([22]) يعني أنهم ملوا كتابة الخراساني، فكانوا يكتبوا اسمه مهملاً.

([23]) رواية محمد بن ثور عن ابن جريج أخرجها الفاكهي في أخبار مكة (5/162)، وانظر: الفتح (8/535).

([24]) مقدمة الفتح (375).

([25]) السابق (376).

([26]) الأثر أخرجه عبدالرزاق في تفسير (2/320) عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا يدل على أن عطاءً هو الخراساني، وقد أنكر أن يكونه الذهبي في السير (6/141).

([27]) لكن الحافظ قال في الفتح (8/536): وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج، عن عطاء الخراساني، وعن عطاء بن أبي رباح جميعًا، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة، وإلا فكيف يخفى على البخاري ذلك مع تشدده في شرط الاتصال، واعتماده غالبًا في العلل على علي بن المديني شيخه، وهو الذي نبه على هذه القصة، ومما يؤيد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة، وإنما ذكر بهذا الإسناد موضعين هذا وآخر في النكاح، ولو كان خفي عليه لاستكثر من إخراجها، لأن ظاهرها أنها على شرطه.

([28]) الإلزامات والتتبع (142).

([29]) الصحيح (5/2406).

([30]) الصحيح (7/70).

([31]) الصحيح (7/71).

([32]) التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة (47).

([33]) الصحيح (5/2016، و2017).

([34]) الصحيح (4/184، و185).

([35]) شرح مسلم (10/77).

([36]) الصحيح (3/1158).

([37]) الصحيح (5/98).

([38]) الصحيح (6/2630).

([39]) الصحيح (5/100).

([40]) الصحيح (3/1260).

([41]) الصحيح (5/87).

([42]) الصحيح (6/2447).

([43]) الصحيح (5/87).

([44]) الصحيح (2/739).

([45]) الصحيح (2/811).

([46]) الصحيح (3/1051).

([47]) الصحيح (3/1123).

([48]) الصحيح (5/ 51).

([49]) الصحيح (5/53).

([50]) الصحيح (5/90، و91).

([51]) يعني الدارقطني.

([52]) هو أبو الغيث.

([53]) جواب أبي مسعود الدمشقي لأبي الحسن الدارقطني عما بين غلط أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري (51).

([54]) مقدمة فتح الباري (370).

([55]) الفتح (5/311).

([56]) مقدمة فتح الباري (352).

([57]) شرح مسلم (5/211).

([58]) العلائي. خليل بن كيكلدي بن عبدالله. التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة" تحقيق مرزوق بن هياس الزهراني. طبع مكتبة العلوم والحكم 1412هـ (78).

([59]) ابن تيمية. أحمد بن عبدالحليم الحراني "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية" تحقيق د. محمد رشاد سالم. (5/101).

([60]) انظر: شرح صحيح مسلم (4/111، و6/181، و8/152، و9/59، و10/43، و183)، وفتح الباري (2/493، 515، و5/346، 333، 351، و6/351، و7/454، 458، 365).

([61]) مقدمة فتح الباري (364).

([62]) الإلمام (1/182).

([63]) مقدمة الفتح (348).

([64]) تلخيص الحبير (3/966).