بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
وبعد
فهذا
بحث في أنواع الأحاديث المنتقدة على البخاري ومسلم في صحيحيهما، فأقول مستعينًا
بالله:
إن
أحاديث الصحيحين من هذه الناحية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم
الأول: أحاديث وقع في أسانيدها أو متونها مخالفة بين رواتها وأخرج الشيخان الوجهين
كليهما، أو أخرجا المنتقد مع بيان الصواب، أو أخرجاها مع بيان الخلاف فيها:
فمن
النوع الأول:
قال
الإمام البخاري رحمه الله: "حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن خازم، قال: حدثنا الأعمش، عن
مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر النبي r بقبرين فقال: إنهما ليعذبان
...)، وأخرجه في موضع أخر
فقال: "حدثنا عثمان، قال حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: (مر النبي r بحائط من حيطان المدينة -أو
مكة- فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما ...)([1]).
ففي
الإسناد الأول أدخل الأعمش بين مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما طاووسًا، وفي
الإسناد الثاني خالفه منصور، فرواه عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما مباشرة،
وهو محمول على أن البخاري يرى صحة الوجهين، فيكون مجاهد سمعه من طاووس، ثم سمعه من
ابن عباس رضي الله عنهما([2]).
وقال
الإمام مسلم: "وحدثني أبو الربيع الزهراني وأبو كامل الجحدري واللفظ
لأبي كامل، قالا: حدثنا حماد -وهو ابن زيد-، حدثنا أيوب، عن محمد، عن عبدالرحمن بن
بشر بن مسعود رده إلى أبي سعيد الخدري t قال: سئل النبي r عن العزل؟ فقال: (لا عليكم أن تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر).
وقال: "وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن معاذ،
حدثنا ابن عون، عن محمد، عن عبدالرحمن بن بشر الأنصاري قال: فرد الحديث حتى رده إلى
أبي سعيد الخدري t
...".
وقال: "وحدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا سليمان بن حرب،
حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، قال: حدثت محمدًا عن إبراهيم بحديث عبدالرحمن بن بشر
(يعني حديث العزل) فقال: إياي حدثه عبدالرحمن بن بشر".
وقال: "حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبدالأعلى، حدثنا
هشام، عن محمد، عن معبد بن سيرين قال: قلنا لأبي سعيد t: (هل سمعت
رسول الله r يذكر في العزل شيء ..)([3]).
في الإسناد الأول أخرجه الإمام مسلم عن ابن سيرين، عن
عبدالرحمن بن بشر، وفي الإسناد الثاني أخرجه عن محمد عن أخيه معبد، فلعل الإمام
مسلم برى صحة الوجهين عن ابن سيرين([4]).
قال الدراقطني: "لم يتابع هشام([5])، وخالفه: أيوب، وابن عون، عن محمد، عن عبدالرحمن بن بشر، عن أبي سعيد t، فلعل
ابن سيرين حفظه عنهما والله أعلم، وأخرجها كلها مسلم".
ومن
النوع الثاني:
قال
الإمام البخاري: "حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن ابن عثمان بن عبدالله بن موهب،
عن موسى بن طلحة، عن أبى أيوب t (أن رجلاً قال للنبي r: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ...)، ثم قال: وقال
بهز: حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن عثمان وأبوه عثمان بن عبدالله، أنهما سمعا موسى بن
طلحة، عن أبى أيوب t ...) بهذا، قال أبو عبدالله([6]):
أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، إنما هو عمرو([7])"([8]).
وقال
الإمام مسلم: "حدثنا عبدالله بن مسلمة القعنبي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه،
عن حفص بن عاصم، عن عبدالله بن مالك ابن بحينة أن رسول الله r مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة
الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا نقول: ماذا قال لك رسول الله
r؟ قال: قال لي: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا)
قال القعنبي: (عبدالله بن مالك بن بحينة، عن أبيه)، قال أبو الحسين مسلم: وقوله (عن
أبيه) في هذا الحديث خطأ"([9]).
ومن
النوع الثالث:
قال
البخاري رحمه الله: "حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح، قال: حدثنا أبو النضر،
عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري t قال: خطب النبي r فقال: (إن الله خير عبدًا بين
الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله ...)([10]).
هكذا
وقع في الصحيح عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، والمحفوظ عن عبيد بن حنين وبسر بن
سعيد، فبسر قرينه في الحديث وليس شيخًَا له فيه([11]).
قال
الحافظ: "وصرح بذلك البخاري فيما رواه أبو علي ابن السكن الحافظ في زوائده في
الصحيح قال: أنبأنا الفربري قال: قال البخاري: (هكذا رواه محمد بن سنان، عن فليح،
وإنما هو عن عبيد بن حنين وعن بسر بن سعيد) يعني بواو العطف، فقد أفصح البخاري بأن
شيخه سقطت عليه الواو من هذا السياق، وأن من إسقاطها نشأ هذا الوهم، وإذا رجعنا
إلى الإنصاف لم تكن هذه علة قادحة مع هذا الإيضاح"([12]).
وقال
الحافظ: "قال الدارقطني: أخرج البخاري حديث
الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي
النبي r: (لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام
الليل ...)، وقد اختلف فيه على الأوزاعي، فقال: عمرو بن أبي سلمة، والوليد بن مسلم وغيرهما
عنه، عن يحيى، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبي سلمة زادوا رجلاً أهـ، وهذا القول
فيه كالقول في الذي قبله، بل صرح الأوزاعي هنا بالتحديث عن يحيى، وصرح يحيى
بالتحديث، عن أبي سلمة، فانتفت تهمة التدليس، والراوي له هكذا عنده عن الأوزاعي:
عبدالله بن المبارك -وهو من الحفاظ المتقنين- ومع ذلك فالبخاري لم يهمل حكاية
الخلاف في ذلك، بل ذكره تعليقًا"([13]).
وقال
الإمام مسلم: "حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن حاتم ويعقوب بن إبراهيم واللفظ لأبي بكر، قالوا: حدثنا
يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن محمد بن أبي بكر، عن عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن
بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله r لما تزوج أم سلمة رضي الله
عنها أقام عندها ثلاثًا وقال: (إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت
لك سبعت لنسائي)، وقال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبدالله بن أبي
بكر، عن عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن (أن رسول الله r حين تزوج أم سلمة رضي الله
عنها ...).
وهذا
مما اعترض عليه الدارقطني([14]).
وأجاب
أبو علي الدمشقي عن اعتراضه فقال: "... إذا جوده ثقات وقصر به ثقات أيضًا
وبينه، فلا يلزمه عيب في ذلك"([15]).
ومثله
ما أخرجه الإمام مسلم قال: "حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع،
ح وحدثني عيسى بن حماد المصري، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، ح قال: وحدثني هارون
بن عبدالله، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا الضحاك بن عثمان، ح قال: وحدثنا المقدمي، حدثنا
يحيى -وهو القطان-، عن ابن عجلان، ح وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، حدثني
أسامة بن زيد، ح قال: وحدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل -يعنون
ابن جعفر- أخبرني محمد -وهو ابن عمرو-، ح قال:
وحدثني هناد بن السري، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق كل هؤلاء، عن إبراهيم بن عبدالله
بن حنين، عن أبيه، عن علي t -إلا الضحاك وابن عجلان فإنهما
زادا عن ابن عباس، عن علي y-، عن النبي r كلهم قالوا: (نهاني عن قراءة
القرآن وأنا راكع)، ولم يذكروا في روايتهم النهي عنها في السجود كما ذكر الزهري، وزيد
بن أسلم، والوليد بن كثير، وداود بن قيس. وحدثناه قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر
بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن عبدالله بن حنين، عن علي t، ولم يذكر في السجود. وحدثني عمرو بن علي، حدثنا
محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبدالله بن حنين، عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال: (نهيت أن أقرأ وأنا راكع) لا يذكر في الإسناد عليًا t"([16]).
قال النووي: "ذكر مسلم الاختلاف
على إبراهيم بن حنين في ذكر ابن عباس بين علي y وعبدالله بن حنين".
القسم
الثاني: أحاديث أخرجاها وانتقد عليهما إخراجها إما من جهة السند أو من جهة المتن،
مع ضعف الجواب عنها.
قال
الدارقطني: "وأخرج البخاري حديث عبيدالله، عن نافع، عن ابن كعب، عن أبيه: (أن
جارية لكعب ...)، وعن مالك، عن نافع، عن
رجل من الأنصار، عن معاذ بن سعد -أو سعد بن معاذ-: (أن جارية لكعب ...)، وعن موسى،
عن جويرية، عن نافع، عن رجل من بني سلمة أخبر عبدالله: (أن جارية لكعب ...)، وقال الليث:
عن نافع سمع رجلاً من الأنصار خبر عبدالله (أن جارية لكعب...)، وهذا اختلاف بيّن وقد
أخرجه، قال: وهذا قد اختلف فيه على نافع، وعلى أصحابه عنه، اختلف فيه على عبيدالله،
وعلى يحيى بن سعيد، وعلى أيوب، وعلى قتادة، وعلى موسى بن عقبة، وعلى إسماعيل بن أمية،
وعلى غيرهم فقيل: عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولا يصح، والاختلاف فيه كثير"([17]).
قال
الحافظ: "هو كما قال، وعلته ظاهرة، والجواب عنه فيه تكلف وتعسف"([18]).
مثال
أخر: قال البخاري: "حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء:
عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان المشركون على منزلتين من النبي r ...)، وقال
عطاء: عن ابن عباس رضي الله عنهما ( كانت قريبة بنت أبى أمية عند عمر بن الخطاب t فطلقها، فتزوجها معاوية بن
أبى سفيان ..)"([19]).
قال
أبو مسعود الدمشقي: "هذا الحديث والذي قبله في تفسير ابن جريج، عن عطاء
الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، والبخاري ظنه ابن أبي رباح، وابن جريج لم
يسمع التفسير من عطاء الخراساني، إنما أخذ الكتاب من ابنه اسمه عثمان بن عطاء،
ونظر فيه وروى"([20]).
قال
أبو علي الغساني: "وهذا تنبيه بديع من أبي مسعود رحمه الله، فقد روينا عن
صالح بن أحمد بن حنبل، عن علي بن المديني قال: (سمعت هشام
بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء -يعني ابن أبي رباح([21])- عن التفسير من البقرة وآل عمران ... ثم قال: اعفني من هذا،
قال هشام: فكان بعد إذا قال عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الخراساني)،
قال هشام: فكتبنا ما كتبنا، ثم مللنا -يعني كتْبنا أنه عطاء الخراساني([22])-، قال علي بن المديني: كتبت أنا هذه القصة، لأن محمد بن ثور
كان يجعلها عن عطاء([23])، عن ابن عباس رضي الله عنهما، فظن الذين حملوها عنه أنه عطاء
بن أبي رباح، قال علي: وسألت يحيى القطان عن حديث ابن جريج، عن عطاء الخراساني؟
فقال: ضعيف، فقلت ليحيى: إنه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، كله ضعيف، إنما هو من
كتاب دفعه إليه"([24]).
قال
ابن حجر([25]): "ففيه نوع اتصال، ولذلك استجاز
ابن جريج أن يقول فيه: أخبرنا، لكن البخاري ما أخرجه إلا على أنه من رواية عطاء بن
أبي رباح، وأما الخراساني فليس من شرطه، لأنه لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما،
لكن لقائل أن يقول: هذا ليس بقاطع في أن عطاء المذكور هو الخراساني([26])، فإن ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن
يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضًا، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عن عطاء بن أبي
رباح، وعطاء الخراساني جميعًا -والله أعلم- فهذا جواب إقناعي، وهذا عندي من
المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ولابد للجواد من كبوة([27])، والله المستعان".
مثال
ثالث: قال الدارقطني: "أخرج مسلم، عن ابن نمير، عن أبي أسامة، عن حبيب بن الشهيد،
عن عطاء، عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: (في كل صلاة قراءة، فما أسمعناه رسول الله r أسمعناكم)، قلت: وهذا لم يرفع
أوله إلا أبو أسامة، خالفه: يحيى القطان، وسعيد بن أبي عروبة، وأبو عبيدة الحداد وغيرهم،
رووه عن حبيب بن الشهيد، عن عطاء، عن أبي هريرة t قال: (في كل صلاة قراءة فما
أسمعناه رسول الله r أسمعناكم)، جعلوا أول الحديث
من قول أبي هريرة t وهو الصواب، وكذلك رواه قتادة،
وأيوب، وحبيب المعلم، وابن جريج"([28]).
قال
أبو مسعود الدمشقي: "هو لعمري كما ذكر، لا خلاف فيه (قال رسول الله r) إلا من رواية مسلم، عن ابن نمير من حديث
أبي أسامة، فقد رواه الناس على الصواب عنه، ولم أره من حديث ابن نمير إلا عند
مسلم، ولعل الوهم فيه من مسلم، أو من ابن نمير، أو من أبي أسامة لما حدث به ابن
نمير، لأن هذا كله يحتمل ...".
القسم
الثالث: وهذا خاص بالمتون، وهو على أنواع:
النوع
الأول: ما كان من باب الراوية بالمعنى.
النوع
الثاني: ما كان من باب تنوع اللفظ النبوي في القضية الواحدة، وذلك عند تعددها.
مثاله:
ما أخرجه البخاري عن سعيد بن عفير([29])، ومسلم عن حرملة
بن يحيى([30])، كلاهما عن ابن
وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أنس t بلفظ (قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من
اليمن)، وفي رواية عند مسلم([31]) من طريق قتادة، عن
أنس t بلفظ ( كما بين صنعاء والمدينة)، وفي رواية
له (ما بين المدينة وعمان).
قال
العلائي: "وأما اختلاف الأحاديث في تقدير مساحة الحوض -أوردنا الله أياه
بفضله وكرمه- فالكلام عليه مشهور، وأحسن وجه قيل فيه: إن التقدير كان في كل وقت بحسب
ما يفهم الحاضرون من المسافة مع تقارب ذلك، وأنه نحو شهر"([32]).
النوع
الثالث: ما كان من باب المخالفة، وهي أحاديث وقع في متونها مخالفة بين رواتها،
وأخرجاها على الخلاف، لكونه مما لا يقدح في صحة الخبر من حيث الجملة، وهذا النوع
هو الذي عناه الحافظ بكلامه كما تدل عليه الأمثلة التي ساقها، ويقع في: الأسماء،
والأعداد، ونوع الجنس، والأثمان ونحوها، فمن ذلك:
ما
وقع فيه الخلاف في الأسماء:
ما
أخرجه البخاري([33])، ومسلم([34])،
كلاهما من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة
رضي الله عنها (أن النبي r كان يمكث عند زينب بنت جحش رضي الله عنها
فيشرب عسلاً)، وأخرجاه من رواية هشام بن عروة، عن عروة، عنها رضي الله عنها قالت:
( ... فدخل على حفصة رضي الله عنها فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن
ذلك؟ فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت رسول الله r ...) الحديث.
قال
النووي: "قولها (فقال:
بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش)، وفى الرواية التي بعدها أن شرب العسل كان عند حفصة
رضي الله عنهما، قال القاضي: ذكر مسلم في حديث حجاج، عن ابن جريج أن التي شرب عندها
العسل زينب، وأن المتظاهرتين عليه عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وكذلك ثبت في حديث عمر
بن الخطاب وابن عباس y أن المتظاهرتين عائشة وحفصة،
وذكر مسلم أيضًا من رواية أبى أسامة، عن هشام أن حفصة هي التي شرب العسل عندها، وأن
عائشة وسودة وصفية رضي الله عنهن من اللواتي تظاهرن عليه، وقال: والأول أصح، قال النسائي:
إسناد حديث حجاج صحيح جيد غاية، وقال الأصيلي: حديث حجاج أصح".
وقال
النووي: "وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى"([35]).
ومثاله
أيضًا: ما أخرجه البخاري([36])، ومسلم([37])،
كلاهما من طريق يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه
... وفيه (فذهب عبدالرحمن ليتكلم قبل صاحبيه، فقال له رسول الله r: كبر ...)، وأخرجه البخاري([38])،
ومسلم([39])،
كلاهما من طريق مالك بن أنس، عن عبدالله بن عبدالرحمن، عن سهل أنه أخبره عن رجال
من كبراء قومه (... فذهب محيصة ليتكلم ... فقال له رسول الله r: كبر كبر ...).
ومما
وقع فيه الخلاف في الأعداد:
ما
أخرجه: البخاري([40])، ومسلم([41])،
كلاهما من طريق طاووس، عن أبي هريرة t، عن النبي r قال: (قال سليمان بن داود عليه السلام:
لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ...)، وأخرجه البخاري من طريق الأعرج([42])،
ومسلم من طريق طاووس([43])، كلاهما عن أبي
هريرة t بلفظ (تسعين امرأة ..) الحديث.
ومما
وقع فيه الخلاف في الأثمان:
ما
أخرجه البخاري([44]) من طريق وهب بن
كيسان، عن جابر t بلفظ (أبطأ علي جملي ... وفيه فاشتراه مني
بأوقية)، ومن طريق عطاء بن رباح([45]) بلفظ (قد أخذته
بأربعة دنانير)، ومن طريق أبي المتوكل الناجي([46]) بلفظ (أواق من
ذهب)، ومن طريق محارب([47]) بلفظ (بوقيتين
ودرهم أو درهمين)، وأخرجه مسلم([48]) من طريق عامر بلفظ
(فبعته بوقية)، ومن طريق أبي الزبير([49]) بلفظ (فبعته منه
بخمس أواق).
ومما
وقع فيه الخلاف في نوع الجنس:
ما
أخرجه الإمام مسلم([50]) من طريق هلال بن
يساف، عن سويد بن غفلة t قال: (كنت سابع سبعة من بني مقرن ما لنا
خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا، فأمرنا رسول الله r أن نعتقها)، وفي رواية أبي شعبة العراقي عنه
t (... وما لنا خادم غير واحد فعمد أحدنا
فلطمه، فأمرنا رسول الله r أن نعتقه).
وهذا
القسم هو الذي استدل الحافظ بوقوعه في الصحيحين على أنهما يخرجا في كتابيهما
الصحيح والأصح، والحق أنها ليست من الصحيح، بل هي خطأ، وإنما أرادا أصل القصة،
ووقعت تلك الألفاظ في سياقاتها تبعًا لا أصلاً.
قال
أبو مسعود الدمشقي: "قال أبو الحسن([51]): وأخرج عن قتيبة،
عن الدراوردي، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة t (خرجنا مع النبي r إلى خيبر ...)، وأخرجه البخاري أيضًا من
حديث معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن مالك، عن ثور، عن سالم مولى ابن
مطيع([52])،
عن أبي هريرة t قال: ...، وقال موسى بن هارون: (وهم في هذا
الحديث ثور بن يزيد، لأن أبا هريرة t لم يخرج مع النبي r، فإنما قدم المدينة بعد خروج النبي r إلى خيبر، وأدرك النبي r وقت فتح خيبر)، قال أبو مسعود: إنما أراد
البخاري ومسلم من تبيين هذا الحديث قصة مِدْعَم في غلول الشملة التي لم تصبها
المغانم، فإن النبي r قال: (إنها لتشتعل عليه نارًا)، وقد روى
الزهري، عن عنبسة بن سعيد، عن أبي هريرة t قال: (أتيت النبي r خيبر بعدما استفتحها فقلت: أسهم لي ...)،
ورواه أيضًا عمرو بن سعيد بن العاص، عن جده، عن أبي هريرة t، ولا يشك أحد من أهل العلم أن أبا هريرة t قال: (شهدت قسم النبي r غنائم خيبر هو وجعفر بن أبي طالب وجماعة من
مهاجرة الحبشة y الذين قدموا في السفينة)، فإن كان ثور وهم
في قوله (خرجنا)، فإن القصة المرادة من نفس الحديث صحيحة"([53]).
وعلى
ذلك جرى تعليل الحافظ ابن حجر في أكثر من قصة، فقال: "والجواب عن ذلك أن
المراد من الحديث أصل القصة"([54]).
وقال:
"وكأن هذا القدر من الاختلاف لا يقدح في صحة الحديث، لأن المقصود منه ما وقع
من بركته r في التمر، وقد حصل توافقهم عليه، ولا يترتب
على تعيين تلك الصلاة بعينها كبير معنى"([55]).
وقال:
"وقد تعقب النسائي أيضًا مالك، وموضع التعقب منه قوله (إلى قباء)، والجماعة
كلهم قالوا: (العوالي)، ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا
سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة"([56]).
ومن
ذلك ما وقع عند مسلم من صلاة النبي r على راحلته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما،
هكذا رواه نافع، وابن جبير، وعبدالله بن دينار، وسالم، ووقع في رواية سعيد بن يسار
عنه t (رأيت رسول الله r يصلي على حمار ...).
قال
النووي: "قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، قالوا:
وإنما المعروف في صلاة النبي r على راحلته أو على البعير"([57]).
وقد
يذكر البخاري ومسلم الروايات المختلفة في الباب ليبينا الوهم الواقع في بعضها،
وهذا من باب التنبيه بالإشارة، وقد يصرحا - كما سبق- بوهم الراوي.
قال
العلائي: "وكأن الشيخين رحمهما الله إنما أخرجا الحديث الأول مع بقية
الأحاديث ليبينا ما في تلك الرواية من الوهم"([58]).
وقال
ابن تيمية: "... (وأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشىء الله لها خلقًا فيسكنهم
فضول الجنة) هكذا روي في الصحاح من غير وجه، ووقع في بعض طرق البخاري غلط قال فيه:
(وأما النار فيبقى فيها فضل)، والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب ليبين غلط
الراوي، كما جرت عادته بمثل ذلك إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ، ذكر ألفاظ سائر
الرواة التي يعلم بها الصواب"([59]).
وهذه
الأخطاء في المتون تقع عندهما كما يقع عندهما المرسل والمنقطع تبعًا للموصول، فهل
يقال: أنهما يخرجا المرسل والمنقطع في صحيحيهما([60])؟!!.
قال
الحافظ: "قال الدارقطني: أخرج البخاري حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع (أن
عمر t أصاب جاريتين من سبي حنين)،
وفي أوله (أن عمر t قال: نذرت نذرًا) هكذا
أخرجه مرسلاً، ووصل حديث النذر حماد بن سلمة، وجرير بن حازم، وجماعة عن أيوب، عن
نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو صحيح، ووصل حديث الجاريتين جرير بن حازم، عن
أيوب، وقول حماد أصح، قلت: إذا صح أصل الحديث صح قول من وصله، وقد بين البخاري
الخلاف فيه، وقد قدمناه أنه في مثل هذا يعتمد على القرائن، والله الموفق"([61]).
وأئمة
الحديث لا يشددون في أخطأ المتون وإن كانت علة عندهم، فيخرجونها مع التنبيه عليها
تارة صريحًا، وتارة مع الإشارة.
قال
ابن دقيق العيد: "وقد صحح بعضهم إسناد بعض طرقه، وهو أيضًا عندنا صحيح على
طريقة الفقهاء، لأنه وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفًا فيه في بعض ألفاظه وهي علة
عند المحدثين ..."([62]).
قال
الحافظ وهو يعدد ما انتقده الأئمة على البخاري: "القسم السادس منها: ما اختلف
فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح، لإمكان الجمع في
المختلف من ذلك، أو الترجيح، على أن الدارقطني وغيره من أئمة النقد لم يتعرضوا
لاستيفاء ذلك من الكتابين كما تعرضوا لذلك في الإسناد"([63]).
وقال:
"وأما رواية عمران بن حصين t، فرواها أبو داود، والترمذي، والبيهقي من حديث
علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين t قال: (غزوت مع رسول الله r، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة لا
يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد صلوا أربعًا فإنا قوم سفر)، حسنه الترمذي، وعلي
ضعيف، وإنما حسنه الترمذي لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة، كما عرف من عادة
المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق"([64]).
والحمد
لله رب العالمين.
([4])
ومما يدل على صحة رواية هشام بن حسان أمور: أولها: أنه تابعه مجاعة بن الزبير في
حديثه (49)، فرواه عن معبد به، ثانيها: أن للحديث أصلاً من رواية معبد، رواها شعبة
عنه وقد أخرجها الإمام مسلم، ثالثها: إن هشام بن حسان من أثبت الناس في ابن سيرين،
فهذا كله يدل على صحة رواية هشام، ولذا قال الدراقطني: فلعل ابن سيرين حفظه عنهما.
([5])
وقفت له على متابع، فقد رواه مجاعة بن الزبير في حديثه (49)، فلعل الدارقطني لم
يعتد بها لكونه يرى ضعف مجاعة، أو أنه رحمه الله لم يستحضرها حال كتابته، والله
أعلم.
([15])
جواب أبي مسعود الدمشقي لأبي الحسن الدارقطني عما بين غلط أبي الحسن مسلم بن
الحجاج القشيري (103).
([21])
هكذا وقع في الفتح، وتفسيره بـ (ابن أبي رباح) هنا لا يستقيم مع قوله بعد ذلك
(الخراساني)، وقوله (فظن الذين حملوها عنه أنه: عطاء بن أبي رباح)، وقد وردت القصة
في الفتح (8/535) وليس فيها هذا التفسير، فلعل ما وقع هنا من النساخ.
([26])
الأثر أخرجه عبدالرزاق في تفسير (2/320) عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن
عباس رضي الله عنهما، وهذا يدل على أن عطاءً هو الخراساني، وقد أنكر أن يكونه
الذهبي في السير (6/141).
([27])
لكن الحافظ قال في الفتح (8/536): وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه، لكن
الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج، عن عطاء الخراساني، وعن عطاء بن
أبي رباح جميعًا، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا
يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة، وإلا فكيف يخفى على
البخاري ذلك مع تشدده في شرط الاتصال، واعتماده غالبًا في العلل على علي بن
المديني شيخه، وهو الذي نبه على هذه القصة، ومما يؤيد ذلك أنه لم يكثر من تخريج
هذه النسخة، وإنما ذكر بهذا الإسناد موضعين هذا وآخر في النكاح، ولو كان خفي عليه
لاستكثر من إخراجها، لأن ظاهرها أنها على شرطه.
([53])
جواب أبي مسعود الدمشقي لأبي الحسن الدارقطني عما بين غلط أبي الحسين مسلم بن
الحجاج القشيري (51).
([58])
العلائي. خليل بن كيكلدي بن عبدالله. التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة"
تحقيق مرزوق بن هياس الزهراني. طبع مكتبة العلوم والحكم 1412هـ (78).
([59])
ابن تيمية. أحمد بن عبدالحليم الحراني "منهاج السنة النبوية في نقض كلام
الشيعة القدرية" تحقيق د. محمد رشاد سالم. (5/101).