الأربعاء، 12 مايو 2021

صلاة الركعتين في البيت بعد صلاة العيد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد"

فهذا بحث مختصر في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث:

فأقول مستعينًا بالله:

 

المبحث الأول: الأحاديث الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي قبل العيد ولا بعده.

حديث الأول:

روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها).

أخرجه: البخاري عن أبي الوليد الطيالسي واللفظ له (2/24)، ومسلم من طريق معاذ العنبري (3/21)، كلاهما عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن ابن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه به.

حديث الثاني:

روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة: سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة، ولم يصل قبلها ولا بعدها).

أخرجه: أحمد في المسند عن وكيع (11/283)، وابن ماجه من طريقه (2/333)، والمحاملي في صلاة العيدين من طريق سفيان الثوري وطريق وكيع (2/ق8/ب)، وزاهر الشحامي في تحفة عيد الفطر من طريق سفيان وطريق وكيع (113، و115)، كلاهما عن عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه به مرفوعًا.

واقتصر ابن ماجه على الجملة الأخيرة منه.

وخالفهما: الطيالسي، فرواه عن عبدالله بن عبدالرحمن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أنه قال: (الصلاة قبل العيد، ليس قبله ولا بعده صلاة).

أخرجه: ابن المنذر في الأوسط (4/266)، قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أبو داود الطيالسي به موقوفًا.

وخالفهم: عبدالرزاق، فرواه عن عبدالله بن عبدالرحمن قال: ( كان عمرو بن شعيب يأمرنا أن لا نصلي قبلها ولا بعدها).

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف (3/275)، والمحاملي في صلاة العيدين من طريقه (2/ق8/ ب)، عن عبدالله بن عبدالرحمن به مقطوعًا. 

وفي لفظ المحاملي (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين ... فذكر التكبير قال: وكان عمرو بن شعيب يأمر ...) فذكره

الكلام على الروايات:

والحديث في سنده عبدالله بن عبدالرحمن بن يعلى الطائفي مختلف فيه، قال ابن معين في التاريخ رواية الدارمي (148): "صويلح".

وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (5/96): "ليس هو بقوي، هو لين الحديث".

وقال العجلي في ثقاته (2/45): "ثقة".

وقال النسائي في الضعفاء (145): "ليس بالقوي".

وقال الدراقطني في سؤالات البرقاني (93): "يعتبر به".

وقال ابن عدي في الكامل (5/177): "يروي عن عمرو بن شعيب أحاديثه مستقيمة، وهو ممن يكتب حديثه".

وقال الحافظ: "صدوق يخطيء ويهم".

والحديث لم أقف عليه إلا من روايته، ويشبه أن تكون رواية عبدالرزاق هي المحفوظة، فقد فصل بين الحديث وبين قول عمرو بن شعيب، والله أعلم.

تنبيه:

قال الأمام أحمد بعد أن ذكر الحديث: "وأنا أذهب إلى هذا".

وفي مسائل عبدالله (2/427) قال: "وبهذا أخذ، ولا أصلي قبلها ولا بعدها".

حديث الثالث:

عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله).

أخرجه: ابن أبي شيبة عن وكيع واللفظ له (4/224)، وأحمد في المسند عنه (9/178)، وعبد بن حميد في المسند عن أبي نعيم (المنتخب 265)، والترمذي في الجامع من طريق وكيع (1/541)، وأبو يعلى في المسند من طريق محمد بن ربيعة (10/79)، والسراج في حديثه من طريق وكيع وطريق محمد بن ربيعة (3/140)، والمحاملي في صلاة العيدين من طريق محمد بن عبدالله بن الزبير (2/ق8/ب)، والطبراني في الأوسط من طريق الفضل بن موسى (8/19)، والحاكم في المستدرك من طريق وكيع (2/212)، والبيهقي في السنن الكبرى من طريق أبي نعيم (3/302)، وزاهر الشحامي في تحفة عيد الفطر من طريق محمد بن عبدالله (116)، كلهم عن أبان بن عبدالله البجلي، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد، عن ابن عمر رضي الله عنهما به.

وفي لفظ عبد بن حميد والبيهقي (خرجنا مع ابن عمر رضي الله عنهما يوم أضحى، أو فطر، فخرج يمشي حتى أتى المصلى، فجلس حتى أتى الإمام، ثم صلى وانصرف، ثم انصرف ابن عمر فلم يصل قبلها ولا بعدها صلاة، فقلت: يا ابن عمر ما قدامها صلاة قبلها ولا بعدها؟ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع).

وخالفه: نافع، فرواه عن ابن عمر رضي الله عنهما من فعله.

أخرجه: مالك في الموطأ واللفظ له (1/252)، وعبدالرزاق عن عبدالله بن نافع وطريق موسى بن عقبة وطريق أيوب (3/274، و275)، وابن أبي شيبة من طريق أيوب (4/225)، كلهم عن نافع (أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن يصلي يوم الفطر قبل الصلاة ولا بعدها).  

وزاد عبدالرزاق في رواية له (كان لا يصلي يومئذ حتى يتحول النهار).

وأبان قال عنه الحافظ: "صدوق في حفظه لين".

وقد تفرد بها عن ابن عمر، وتفرد أبان بها عن أبي بكر قاله الطبراني.

ومع هذا فقد صححه البخاري رحمه الله.

قال الترمذي في العلل (95): "قال محمد حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا صلاة قبل العيدين) هو صحيح، وأبان بن عبدالله صدوق الحديث".

واستدل به الإمام أحمد على عدم الصلاة قبل العيد وبعدها، وهو دليل على صحته عنده.

قال أبو داود في مسائله (88): "قال أحمد: روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لم يصل قبلها ولا بعدها) وأخذ به".

وقال الترمذي عنه: "هذا حديث حسن صحيح".

وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد".

تنبيه:

وقع لفظ الحديث عند الألباني رحمه الله في الإرواء (3/99) هكذا (... وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعله)، ولم أقف عليه بهذا اللفظ في المصادر التي بين يدي.

حديث الرابع:

روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى قبل أن يخطب بغير أذان ولا إقامة، ولم يصل قبلها ولا بعدها).

أخرجه: السراج في حديثه من طريق هشيم واللفظ له (3/140)، والدارقطني في السنن من طريق أبي معاوية (2/385)، والمحاملي في صلاة العيدين من طريقه (2/ق8/ب)، وزاهر الشحامي في تحفة عيد الفطر من طريقه كذلك (112)، كلاهما عن عبدالملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح به.

الكلام على الرواية:

وقوله في الحديث (... ولم يصل قبلها ...) غير محفوظة، خالف هشيمًا وأبا معاوية كل من رواه عن عبدالملك: عبدة بن سليمان، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وعيسى بن يونس، والقطان، وعبدالله بن نمير، وأبو عوانة، وجرير بن عبدالحميد، ويزيد بن هارون، ويعلى بن عبيد فلم يذكروها في الحديث، وتابعهم على عدم ذكرها: ابن جريج، فرواه عن عطاء بدونها.

الحديث الخامس:

حديث أنس رضي الله عنه، وله عنه طريقان:

الطريق الأول: رواه أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبل صلاة الفطر ولا بعدها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن صلى قبل صلاة الأضحى ولا بعدها شيئًا).

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف (3/275)، وابن عدي في الكامل من طريق عبدالمجيد بن أبي رواد (2/63)، كلاهما عن ابن جريج، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس رضي الله عنه به.

وفي سنده أبان بن أبي عياش متروك قاله الحافظ.

الطريق الثاني: رواه قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد ولا بعده)

أخرجه: ابن عدي في الكامل (2/216)، قال: حدثني القاسم بن مهدي، ثنا أبو مصعب الزهري، أخبرنا حاتم بن إسماعيل، حدثني عبدالله بن محرر، عن قتادة به.

وفيه: عبدالله بن محرر متروك قاله الحافظ.

الحديث السادس:

روى سعد القَرَظ رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد ولا بعده).

أخرجه: المحاملي في صلاة العيدين (2/ق9/أ) قال: ثنا عبدالله بن شيب، قال: حدثني ذؤيب بن عمامة، قال: حدثني عبدالرحمن بن سعد المؤذن، عن أبيه، عن جده، عن سعد القرظ به.

الكلام على الرواية:

الحديث واه جدًا، في سنده عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد بن عائذ القرظ المؤذن، قال ابن معين (الجرح والتعديل 5/238): "مدني ضعيف".

وقال البخاري في التاريخ الكبير (5/287): "فيه نظر".

وقال الحافظ: "ضعيف".

وقال عن أبيه: "مستور".

وقال عن جده: "مقبول".

وفيه عبدالله بن شبيب، قال فضلك الرازي (الكامل 5/430): "عبد الله بن شبيب يحل ضرب عنقه".

وقال ابن عدي في الكامل (5/433): "ولعبدالله بن شبيب غير ما ذكرت من الأحاديث التي أنكرت عليه كثير".

وقال الحافظ في اللسان (3/299): "واه".

 

المبحث الثاني: الحديث الدال على جواز الصلاة بعد العيد في البيت:

روى عبدالله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين).

أخرجه: ابن ماجه من طريق الهيثم بن جميل واللفظ له (2/334)، وابن خزيمة في الصحيح من طريق أبي مطرف بن أبي الوزير (2/362)، والحاكم في المستدرك من طريق جندل بن والق (2/215)، والبيهقي في السنن الكبرى من طريقه (3/303)، كلهم عن ابن عقيل به.

وفي لفظ ابن خزيمة (فإذا رجع صلى في بيته ركعتين، وكان لا يصلي قبل الصلاة شيئًا)، وفي لفظ الحاكم والبيهقي (إذا رجع من المصلى صلى ركعتين).

وخالفهم في لفظه: عبيدالله بن عمرو الرقي، فرواه عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم الفطر قبل أن يخرج، وكان لا يصلي قبل الصلاة، فإذا قضى صلاته صلى ركعتين).

أخرجه: أحمد في المسند (17/324)، وأبو يعلى في المسند عن زهير بن معاوية (2/500)، وابن المنذر في الأوسط من طريقه (4/297)، والمحاملي في صلاة العيدين عن أحمد بن عمر السمسار (2/ق8/ب)، وزهر الشحامي في تحفة العيد من طريقه (110)، كلهم عن زكريا بن عدي، عن عبيدالله بن عمرو الرقي به.

وفي لفظ أبي يعلى وابن المنذر (... فإذا انصرف صلى ركعتين)، وفي لفظ المحاملي والشحامي (... إذا أتي المصلى لم يصلي قبلها ولا بعدها حتى يرجع).

الكلام على الحديث:

الحديث في سنده ابن عقيل، وقد تكلم أهل العلم في حفظه، ولخص الحافظ ابن حجر رحمه الله القول فيه، فقال: "صدوق في حديثه لين، ويقال: تغير بآخرة".

والحديث أخرجه ابن خزيمة في صححه، وصححه الحاكم، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (2/476)، وتبعه الألباني في الإرواء (3/100) رحمهم الله جميعًا.

ولكن يعكر على ذلك أمور:

الأمر الأول: أن ابن عقيل مختلف فيه، لذا لما ذكر حديثه ابن عبدالهادي في المحرر (1/284) قال بعده: "وابن عقيل مختلف فيه".

وقال ابن رجب في فتح الباري له (6/186) بعد أن ذكر تصحيح الحاكم قال: "كذا قال وابن عقيل مختلف فيه".

الأمر الثاني: أن ابن عقيل تفرد به.

قال البزار ( كشف الأستار 1/312): "لا نعلمه عن أبي سعيد رضي الله عنه إلا بهذا الإسناد".

وهذه سنة وقد تفرد بها، وحاله لا تحتمل ذلك.

قال الحاكم: "هذه سنة عزيزة".

الأمر الثالث: أن ابن عقيل اختلف في لفظ الحديث، فمرة يقول: (فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين)، ومرة يقول: (فإذا قضى صلاته صلى ركعتين)، وهذا اللفظ محتمل وليس صريحًا في المعنى، وهو يدل على أن ابن عقيل لم يضبط لفظه إن كان زكريا بن عدي حفظه عنه.

الأمر الرابع: أنه ورد عند البخاري من رواية عياض بن عبدالله العامري، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف ...)، فلم يذكر فيه صلاة الركعتين في البيت.

أقول: والذي ينقدح في خاطري -والعلم عند الله- أن ابن عقيل أراد أن يختصر الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كما ورد في رواية عياض بن عبدالله فأخطأ فيه، والله أعلم.

الأمر الخامس: أنه مخالف لأحاديث الباب، وخاصة حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقد جاء في لفظه من رواية البخاري (1/172) من طريق عبدالرحمن بن عابس، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال له رجل: (شهدت الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته -يعني من صغره- أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال رضي الله عنه، ثم أتى هو وبلال البيت).

فلم يذكر رضي الله عنه الركعتين، وابن عباس رضي الله عنهما من أهل بيته، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته لما خفي ذلك عليه، خاصة أنه كان معه في العيد وشهد معه خطبة النساء، وعودته بعد ذلك لبيته، ولو صلاهما عليه أفضل الصلاة والسلام في بيته لأخبر بهما.

أقول: كل هذا الأمور تجعلنا نحكم بضعف رواية ابن عقيل هذه، والله أعلى وأعلم.

 

المبحث الثالث: من قال بعدم الصلاة قبل العيد وبعدها من أهل العلم:

قال الترمذي في الجامع (1/541): "والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحق، وقد رأى طائفة من أهل العلم الصلاة بعد صلاة العيدين وقبلها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، والقول الأول أصح".

يقصد عدم الصلاة لا قبلها ولا بعدها.

وقال الزهري (المصنف لعبدالرزاق 3/275): "ما علمنا أحدًا كان يصلي قبل خروج الإمام يوم العيد ولا بعده".

وقال أبو داود في مسائله (88): " سمعت أحمد يقول: روى الكوفيون الصلاة بعدها، والمصريون -هكذا في المطبوع، وفي مسائل ابن هانئ (105) أهل البصرة وكذا في الأوسط (4/267)- قبلها، والمدنيون لا قبلها ولا بعدها".

وقال ابن المنذر في الأوسط (4/266) بعد أن روى عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يتطوع قبل العيدين ولا بعدهما قال: "وهذا مذهب الشافعي، مسروق، والضحاك بن مزاحم، والزهري، والقاسم، وسالم، ومعمر، وابن جريج".

أقول: هكذا أطلق الترمذي وتبعه ابن المنذر القول بعدم الصلاة قبل العيد وبعدها دون تفضيل للشافعي، لكن جاء في الأم (2/499) أنه فرق بين الإمام والمأموم، فقال: "... وهكذا أحب للإمام لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أمرنا به من أن يغدو من منزله قبل أن تحل صلاة النافلة، ونأمره إذا جاء المصلى أن يبدأ بصلاة العيد، ونأمره إذا خطب أن ينصرف، وأما المأموم فمخالف للإمام ... ولا أرى بأسًا أن يتنفل المأموم قبل صلاة العيد وبعدها في بيته، وفي المسجد وطريقه والمصلى وحيث أمكنه التنفل".

فالشافعي رحمه الله يفرق بين الإمام والمأموم في ذلك.

وقال أبو داود في سؤالات (87): "سمعت أحمد سئل عن الصلاة بعد العيد؟ قال: لا يصلى قبلها ولا بعدها".

وقال عبدالله في مسائله (2/429): "قال أبي: ليس قبل العيد ولا بعده صلاة قط".

 

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وزوجاته والتابعين والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

الأحد، 2 مايو 2021

تخريج حديث لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

وبعد

فهذا بحث في تحقيق الكلام على حديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة).

فأقول وبالله استعين:

روى ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل قال: قال حذيفة لعبدالله رضي الله عنهما: "عكوف بين دارك وبين دار أبي موسى رضي الله عنه لا تغير؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس)، قال عبدالله: لعلك نسيت وحفظوا، وأخطأت وأصابوا".

أخرجه: سعيد بن منصور عن ابن عيينة (تنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 2/361)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار وأحكام القرآن من طريق هشام بن عمار واللفظ له (1/441)، والإسماعيلي في المعجم من طريق محمد بن الفرج (2/720)، والبيهقي في السنن الكبير من طريق محمود بن آدم (4/316)، والذهبي في السير من طريقه (15/81)، كلهم عن ابن عيينة به مرفوعًا.

وفي لفظ سعيد بن منصور (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال: مسجد جماعة)، وفي لفظ البيهقي (لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام أو قال: إلا في المساجد الثلاثة).

وخالفهم: عبدالرزاق، وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي، وابن أبي عمر، فرووه عن ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد قال: سمعت أبا وائل يقول: "قال حذيفة لعبدالله رضي الله عنهما قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى رضي الله عنه لا تنهاهم، فقال له عبدالله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: (لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد إيلياء).

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف واللفظ له (4/348)، والفاكهي في أخبار مكة من طريق الجمحي وابن أبي عمر (2/149)، والطبراني في المعجم الكبير من طريق عبدالرزاق (9/302)، كلهم عن ابن عيينة به موقوفًا.

الكلام على الروايات:

المحفوظ عن ابن عيينة هي الرواية الموقوفة، لما يلي:

أولاً: أن الرواية الموقوفة رواها حفظ أصحاب ابن عيينة: عبدالرزاق، وابن أبي عمر، وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي.

وأما الرواية المرفوعة فلا يسلم طريق من طرقها من مقال -على أن الذهبي قد صححها في السير-، وإليك بيان طرقها والكلام عليها:

فأما طريق سعيد بن منصور -وهي أجودها- فإن فيها الشك هل قال: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال: مسجد جماعة)).

وكذلك رواية محمود بن آدم، فيها الشك أيضًا، فقد قال في روايته: ((لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام أو قال: إلا في المساجد الثلاثة)).

قال ابن حزم في المحلى (5/135): "وهذا شك من حذيفة رضي الله عنه أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قاله (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شكًا".

وقال الشوكاني في النيل (8/434): "وأيضا الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج بأحد شقيه".

وأما رواية عمار بن هشام فعمار متكلم فيه، قال الحافظ عنه: "صدوق كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح".

ورواية محمد بن الفرج، في سندها العباس بن أحمد بن الحسن بن يزيد الرشاء، ذكره الخطيب في تاريخه (14/40) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقول الخطيب في ترجمته: "كان من الشيوخ الصالحين"، لا يفيد في توثيقه، بل هو إلى تضعيف روايته أقرب منه إلى التوثيق.

قال يحيى بن سعيد القطان: "لن ترى الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث".

وقال أبو عاصم النبيل:  "ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث".

وقال أبو أسامة: "إن الرجل يكون صالحاً ويكون كذاباً".

وقال عمرو الناقد: سمعت وكيعًا يقول -وذكر له حديث يرويه وهب بن إسماعيل- فقال: "ذاك رجل صالح ، وللحديث رجال".

ثانيًا: مما يدل على كون الرواية محفوظة هي الموقوفة أنه جاء من رواية النخعي أنه قال: "جاء حذيفة إلى عبدالله رضي الله عنهما فقال: ألا أعجبك من ناس عكوف بين دارك ودار الأشعري رضي الله عنه، قال عبدالله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، فقال حذيفة: ما أبالي أفيه أعتكف أو في بيوتكم هذه، إنما الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، وكان الذين اعتكفوا -فعاب عليهم حذيفة- في مسجد الكوفة الأكبر".

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف من طريق واصل الأحدب واللفظ له (4/347)، وابن أبي شيبة في المصنف من طريقه (6/308)، والطحاوي في أحكام القرآن من طريق المغيرة (1/442)، والطبراني في الكبير من طريق عبدالملك الأعور وطريق المغيرة وطريق واصل (9/301)، كلهم عن إبراهيم النخعي به.

وأعله ابن حجر في الدارية (1/288) بالانقطاع، وهو كما قال.

ثالثًا: أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يقنع بما قاله حذيفة رضي الله عنه، ولم يأخذ به، ولو كان أخبره به مرفوعًا لما تردد عن العمل به.

فقد روى شداد بن الأزمع قال: "اعتكف رجل في المسجد في خيمة له، فحصبه الناس، قال: فأرسلني الرجل إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فجاء عبدالله فطرد الناس، وحسن ذلك".

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف (4/348)، وابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع (5/309)، والطبراني في الكبير من طريق أبي نعيم وطريق عبدالرزاق (9/302)، كلاهما عن الثوري، عن علي بن الأقمر، عن شداد بن الأزمع به.

وشداد وثقه ابن سعد في الطبقات (6/196)، وعلي بن الأقمر قال عنه الحافظ: ثقة.

ومما يدل على ذلك أيضًا قول ابن مسعود لحذيفة رضي الله عنهما (فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت).

قال الشوكاني في النيل (8/434): "فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أن عبدالله يخالفه، ويجوز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما خالفه".

رابعًا: أن الصحابة y خالفوا حذيفة رضي الله عنه في ذلك.

قال أبو يعلى ابن الفراء في كتاب الاعتكاف من التعليق الكبير (28): "لم يكن اعتراض ابن مسعود على الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان اعتراضه عليه فيما يذهب إليه من أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي، وليس احتجاجنا بمذهب حذيفة، وإنما احتجاجنا بروايته، وأيضًا فالمسألة إجماع الصحابة y".

أي أنه لا يشترط ذلك، ثم ساق أقوال الصحابة المخالفة لقول حذيفة y.

خامسًا: أن عموم قوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) يدل على جواز الاعتكاف في أي مسجد.

قال الإمام البخاري في الصحيح (2/713): "باب: الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها". ثم ذكر الآية.

وقال الطحاوي في شرح المشكل (7/205): "وكان ظاهر القرآن يدل على ذلك ...  وذكر الآية ثم قال: فعم المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه من الاعتكاف في مساجد بلدانهم، إما مساجد الجماعات التي تقام فيها الجمعات، وإما هي وما سواها من المساجد التي لها الأئمة والمؤذنون، على ما قاله أهل العلم في ذلك".

سادسًا: أن عادة صاحبي الصحيحين أنهما لا يتركا الحديث إذا كان أصل في بابه إلا وله علة.

قال ابن رجب في الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (25): "فقل حديث تركاه إلا وله علة خفية، لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة، صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إلى بقية الكتب المشار إليها".

وقصد بالكتب المشار إليها: الكتب الستة، حيث قال قبل ذلك: "واعتمادهم بعد كتابيهما على بقية الكتب الستة، خصوصًا سنن أبي داود، وجامع أبي عيسى، وكتاب النسائي، ثم كتاب ابن ماجه".

بل قال الإمام أبو داود في رسالته لأهل مكة (68) وهو يتحدث عن كتابه السنن: "وقد ألفته نسقًا على ما وقع عندي، فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته، فاعلم أنه حديث واه، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر".

والحديث لم يخرجه أصحاب الكتب الستة، فدل على أن له علة، وإلا لما تنكب كل هؤلاء الأئمة عن الأخذ به، والعمل بمقتضاه، الله أعلم.

 

تنبيهات مهمة:

أولاً: أن العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (6/668) جعل رواية الجمحي وابن أبي عمر موافقة لرواية من رفعه، وأحال في ذلك على (أخبار مكة) للفاكهي، والصواب أن روايتهما في الكتاب المشار إليه مرفوعة، وقد سبقت الإشارة إليه في التخريج.

ثانيًا: ذكر الشيخ رحمه الله في (6/668) أن رواية سعيد بن منصور وقع الشك فيها في الرفع، والواقع أن روايته وقع الشك فيها في المتن كما سبق بيانه.

ثالثًا: قال صاحب رسالة (دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف): إن محمود بن آدم لم يوثقه إلا ابن حبان، والذي غره أنه راجع تهذيب التهذيب لابن حجر (10/54) فلم يقف فيه إلا على توثيق ابن حبان، فظن أنه لم يوثق من معتبر، والواقع أنه وثقه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/291)، والدارقطني في سؤالات السلمي (275)، ثم وقفت على الصحيحة فوجدت العلامة الألباني رحمه الله تعالى قد رد عليه.

رابعًا: جاء في السنن الكبرى للبيهقي في اسم شيخ شيخه (أبو نصر محمد بن عبدويه بن سهل الغازي) هكذا ورد فيه الغازي بالغين المعجمة، وكذا ورد في غير مصدر، والصواب أنه (الفازي) بالفاء، هكذا ضبطه الذهبي في تذكرة الحفاظ (3/64)، وفاز قرية مشهورة بطوس قاله السمعاني (9/323).

وقوله فيه (عبدويه)، صوابه: حمدويه.

ثم. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين