الأحد، 2 مايو 2021

تخريج حديث لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

وبعد

فهذا بحث في تحقيق الكلام على حديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة).

فأقول وبالله استعين:

روى ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل قال: قال حذيفة لعبدالله رضي الله عنهما: "عكوف بين دارك وبين دار أبي موسى رضي الله عنه لا تغير؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس)، قال عبدالله: لعلك نسيت وحفظوا، وأخطأت وأصابوا".

أخرجه: سعيد بن منصور عن ابن عيينة (تنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 2/361)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار وأحكام القرآن من طريق هشام بن عمار واللفظ له (1/441)، والإسماعيلي في المعجم من طريق محمد بن الفرج (2/720)، والبيهقي في السنن الكبير من طريق محمود بن آدم (4/316)، والذهبي في السير من طريقه (15/81)، كلهم عن ابن عيينة به مرفوعًا.

وفي لفظ سعيد بن منصور (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال: مسجد جماعة)، وفي لفظ البيهقي (لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام أو قال: إلا في المساجد الثلاثة).

وخالفهم: عبدالرزاق، وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي، وابن أبي عمر، فرووه عن ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد قال: سمعت أبا وائل يقول: "قال حذيفة لعبدالله رضي الله عنهما قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى رضي الله عنه لا تنهاهم، فقال له عبدالله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: (لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد إيلياء).

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف واللفظ له (4/348)، والفاكهي في أخبار مكة من طريق الجمحي وابن أبي عمر (2/149)، والطبراني في المعجم الكبير من طريق عبدالرزاق (9/302)، كلهم عن ابن عيينة به موقوفًا.

الكلام على الروايات:

المحفوظ عن ابن عيينة هي الرواية الموقوفة، لما يلي:

أولاً: أن الرواية الموقوفة رواها حفظ أصحاب ابن عيينة: عبدالرزاق، وابن أبي عمر، وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي.

وأما الرواية المرفوعة فلا يسلم طريق من طرقها من مقال -على أن الذهبي قد صححها في السير-، وإليك بيان طرقها والكلام عليها:

فأما طريق سعيد بن منصور -وهي أجودها- فإن فيها الشك هل قال: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال: مسجد جماعة)).

وكذلك رواية محمود بن آدم، فيها الشك أيضًا، فقد قال في روايته: ((لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام أو قال: إلا في المساجد الثلاثة)).

قال ابن حزم في المحلى (5/135): "وهذا شك من حذيفة رضي الله عنه أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قاله (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شكًا".

وقال الشوكاني في النيل (8/434): "وأيضا الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج بأحد شقيه".

وأما رواية عمار بن هشام فعمار متكلم فيه، قال الحافظ عنه: "صدوق كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح".

ورواية محمد بن الفرج، في سندها العباس بن أحمد بن الحسن بن يزيد الرشاء، ذكره الخطيب في تاريخه (14/40) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقول الخطيب في ترجمته: "كان من الشيوخ الصالحين"، لا يفيد في توثيقه، بل هو إلى تضعيف روايته أقرب منه إلى التوثيق.

قال يحيى بن سعيد القطان: "لن ترى الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث".

وقال أبو عاصم النبيل:  "ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث".

وقال أبو أسامة: "إن الرجل يكون صالحاً ويكون كذاباً".

وقال عمرو الناقد: سمعت وكيعًا يقول -وذكر له حديث يرويه وهب بن إسماعيل- فقال: "ذاك رجل صالح ، وللحديث رجال".

ثانيًا: مما يدل على كون الرواية محفوظة هي الموقوفة أنه جاء من رواية النخعي أنه قال: "جاء حذيفة إلى عبدالله رضي الله عنهما فقال: ألا أعجبك من ناس عكوف بين دارك ودار الأشعري رضي الله عنه، قال عبدالله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، فقال حذيفة: ما أبالي أفيه أعتكف أو في بيوتكم هذه، إنما الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، وكان الذين اعتكفوا -فعاب عليهم حذيفة- في مسجد الكوفة الأكبر".

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف من طريق واصل الأحدب واللفظ له (4/347)، وابن أبي شيبة في المصنف من طريقه (6/308)، والطحاوي في أحكام القرآن من طريق المغيرة (1/442)، والطبراني في الكبير من طريق عبدالملك الأعور وطريق المغيرة وطريق واصل (9/301)، كلهم عن إبراهيم النخعي به.

وأعله ابن حجر في الدارية (1/288) بالانقطاع، وهو كما قال.

ثالثًا: أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يقنع بما قاله حذيفة رضي الله عنه، ولم يأخذ به، ولو كان أخبره به مرفوعًا لما تردد عن العمل به.

فقد روى شداد بن الأزمع قال: "اعتكف رجل في المسجد في خيمة له، فحصبه الناس، قال: فأرسلني الرجل إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فجاء عبدالله فطرد الناس، وحسن ذلك".

أخرجه: عبدالرزاق في المصنف (4/348)، وابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع (5/309)، والطبراني في الكبير من طريق أبي نعيم وطريق عبدالرزاق (9/302)، كلاهما عن الثوري، عن علي بن الأقمر، عن شداد بن الأزمع به.

وشداد وثقه ابن سعد في الطبقات (6/196)، وعلي بن الأقمر قال عنه الحافظ: ثقة.

ومما يدل على ذلك أيضًا قول ابن مسعود لحذيفة رضي الله عنهما (فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت).

قال الشوكاني في النيل (8/434): "فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أن عبدالله يخالفه، ويجوز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما خالفه".

رابعًا: أن الصحابة y خالفوا حذيفة رضي الله عنه في ذلك.

قال أبو يعلى ابن الفراء في كتاب الاعتكاف من التعليق الكبير (28): "لم يكن اعتراض ابن مسعود على الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان اعتراضه عليه فيما يذهب إليه من أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي، وليس احتجاجنا بمذهب حذيفة، وإنما احتجاجنا بروايته، وأيضًا فالمسألة إجماع الصحابة y".

أي أنه لا يشترط ذلك، ثم ساق أقوال الصحابة المخالفة لقول حذيفة y.

خامسًا: أن عموم قوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) يدل على جواز الاعتكاف في أي مسجد.

قال الإمام البخاري في الصحيح (2/713): "باب: الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها". ثم ذكر الآية.

وقال الطحاوي في شرح المشكل (7/205): "وكان ظاهر القرآن يدل على ذلك ...  وذكر الآية ثم قال: فعم المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه من الاعتكاف في مساجد بلدانهم، إما مساجد الجماعات التي تقام فيها الجمعات، وإما هي وما سواها من المساجد التي لها الأئمة والمؤذنون، على ما قاله أهل العلم في ذلك".

سادسًا: أن عادة صاحبي الصحيحين أنهما لا يتركا الحديث إذا كان أصل في بابه إلا وله علة.

قال ابن رجب في الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (25): "فقل حديث تركاه إلا وله علة خفية، لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة، صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إلى بقية الكتب المشار إليها".

وقصد بالكتب المشار إليها: الكتب الستة، حيث قال قبل ذلك: "واعتمادهم بعد كتابيهما على بقية الكتب الستة، خصوصًا سنن أبي داود، وجامع أبي عيسى، وكتاب النسائي، ثم كتاب ابن ماجه".

بل قال الإمام أبو داود في رسالته لأهل مكة (68) وهو يتحدث عن كتابه السنن: "وقد ألفته نسقًا على ما وقع عندي، فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته، فاعلم أنه حديث واه، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر".

والحديث لم يخرجه أصحاب الكتب الستة، فدل على أن له علة، وإلا لما تنكب كل هؤلاء الأئمة عن الأخذ به، والعمل بمقتضاه، الله أعلم.

 

تنبيهات مهمة:

أولاً: أن العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (6/668) جعل رواية الجمحي وابن أبي عمر موافقة لرواية من رفعه، وأحال في ذلك على (أخبار مكة) للفاكهي، والصواب أن روايتهما في الكتاب المشار إليه مرفوعة، وقد سبقت الإشارة إليه في التخريج.

ثانيًا: ذكر الشيخ رحمه الله في (6/668) أن رواية سعيد بن منصور وقع الشك فيها في الرفع، والواقع أن روايته وقع الشك فيها في المتن كما سبق بيانه.

ثالثًا: قال صاحب رسالة (دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف): إن محمود بن آدم لم يوثقه إلا ابن حبان، والذي غره أنه راجع تهذيب التهذيب لابن حجر (10/54) فلم يقف فيه إلا على توثيق ابن حبان، فظن أنه لم يوثق من معتبر، والواقع أنه وثقه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/291)، والدارقطني في سؤالات السلمي (275)، ثم وقفت على الصحيحة فوجدت العلامة الألباني رحمه الله تعالى قد رد عليه.

رابعًا: جاء في السنن الكبرى للبيهقي في اسم شيخ شيخه (أبو نصر محمد بن عبدويه بن سهل الغازي) هكذا ورد فيه الغازي بالغين المعجمة، وكذا ورد في غير مصدر، والصواب أنه (الفازي) بالفاء، هكذا ضبطه الذهبي في تذكرة الحفاظ (3/64)، وفاز قرية مشهورة بطوس قاله السمعاني (9/323).

وقوله فيه (عبدويه)، صوابه: حمدويه.

ثم. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق