السبت، 21 أغسطس 2021

أهمية الرجوع للمصادر الأصلية في البحث عن المعلومات وتوثيقها

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

 

وبعد:

فإن من الأمور المهمة لطالب العلم أن تكون مصادره التي يستقي منها المعلومات مأخوذة من مصادرها الأصلية، لتكون تلك المعلومات التي يعتمدها ويسجلها في كتبه أكثر صوابًا، وأقرب إلى الدقة، وأبعد عن الخطأ والتحريف.

وإنه مما يقبح بطالب العلم، ويعاب به أشد العيب أن تكون المصادر الأصلية قريبة منه، بل وفي متناول يديه، ثم تجده لا يقف عليها ولا يراجعها، وينقل بواسطة عنها، وربما كانت واسطته تلك الموسوعات الحاسوبية، التي يقع في بعضها الخلل كثيرًا، فتجده يكتفي بالتحويل منها دون تأكيد، وبالنقل دون تحريص، وما ذاك منه إلا كسلاً واستعجالاً لتسويد الصفحات، وطي الأوراق ودفعها إلى المكتبات، خاصة إذا انضاف إلى ذلك قلة الرغبة في البحث والتفتيش، اللذان هما من أهم صفات طالب العلم الحقيقي.

قال ابن أبي حاتم: "حضرت أحمد بن سنان، وقد حدثنا عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمرة، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عطس فقيل له: يرحمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يهديكم الله ويصلح بالكم ..)، فقال أبي لأحمد بن سنان: إنما هو عن أبي حمزة، عن أبي بردة، فأبي أن يقبل، ثم صار أبي إلى محمد بن عبادة فسأله أن يخرج له حديث يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، فأخرج كتابه فإذا هو حماد بن سلمة، عن أبي حمزة كما قال أبي، فكتبنا عن ابن عبادة هذا الحديث، ثم أخبر أبي ابني أحمد بن سنان بأنه وجد في كتاب ابن عبادة: عن يزيد، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة كما قال أبي، فتحيرا وقالا: ننظر في الأصل، فلما كان الغد حملوا إلى أبي أصل أحمد بن سنان، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة معجمًا على الحاء والزاي كما قال أبي، وقالا: وقع الغلط في التحويل".

وقال عباس بن محمد الدوري (تهذيب الكمال 29/471): "سمعت يحيى بن معين يقول: حضرنا نعيم بن حماد بمصر فجعل يقرأ كتابًا من تصنيفه، قال: فقرأ ساعة ثم قال: حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون بأحاديث، قال يحيى: فقلت له: ليس هذا عن ابن المبارك، فغضب، وقال: ترد علي؟ قال: قلت: إي والله أرد عليك أريد زينك، فأبى أن يرجع، فلما رأيته هكذا لا يرجع، قلت: لا والله ما سمعت أنت هذا من ابن المبارك قط، ولا سمعها ابن المبارك من ابن عون قط، فغضب وغضب من كان عنده من أصحاب الحديث، وقام نعيم فدخل البيت فأخرج صحائف، فجعل يقول وهي بيده: أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس أمير المؤمنين في الحديث، نعم يا أبا زكريا غلطت، وكانت صحائف، فغلطت فجعلت أكتب من حديث ابن المبارك، عن ابن عون، وإنما روى هذه الأحاديث عن ابن عون غير ابن المبارك".

وقال يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/406): "وكان سليمان -يعني ابن عبدالرحمن بن بنت شرحبيل- صحيح الكتاب، إلا أنه كان يحول، فإن وقع فيه شيء فمن النقل"([1]).

وهذا هو السبب الذي جعل ابن معين يقلل من قدر أصناف حماد بن سلمة، حيث قال رحمه الله (تهذيب الكمال 7/262): "من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف، ومن سمع من حماد بن سلمة نسخًا فهو صحيح".

وقال البيهقي في بيان من أخطأ على الشافعي (95): "... كنت قد نظرت في كتب أهل العلم بالحديث والفقه، وجالست أهلها وذاكرتهم، وعرفت شيئًا من علومهم، فوجدت في بعض ما نقل من كتبه، وحول منها إلى غيره، خللاً في النقل، وعدولاً عن الصحة بالتحويل، فرددت مبسوط كتبه القديمة والجديدة إلى ترتيب المختصر، ليتبين لمن تفكر في مسائله من أهل الفقه ما وقع فيه من التحريف والتبديل، ويظهر لمن نظر في أخباره من أهل العلم بالحديث ما وقع فيه الخلل بالتقصير في النقل".

فانظر إلى وقوع الخطأ والتحريف من أهل العلم في القديم بسبب التحويل من الأصول والنسخ إلى المصنفات، والمختصرات، مع دقتهم وسعة علمهم، وقلة أسانيدهم وقرب زمانهم، وقارنه بحالنا اليوم؟! لا شك أنه سيتبين لك بوضوح أهمية الرجوع إلى المصادر الأصلية لنقل المعلومات منها، ولربما احتاج طالب العلم أن يراجع النسخ والأصول ليتأكد من صحة النقل([2]).

قال ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (1/10) وهو ينتقد من ينقل من كتاب عبدالحق دون الرجوع إلى المصادر التي نقل منها قال رحمه الله: "والذي يحصل من علم صحة هذا الذي وصفناه للمزاول، أكثر وأبين مما وصفنا منه، فالكتاب المذكور من حيث حسنه وكثرة ما فيه، قد جر الإعراض عن النظر الصحيح، والترتيب الأولى، من تحصيل الشيء من معدنه، وأخذه من حيث أخذه هو وغيره، هذا على تقدير سلامته من اختلال نقل، أو إغفال، أو خطأ في نظر أهل هذا الشأن، فأما والأمر على هذا، فقد يجب أن يكون نظر من يقرؤه وبحثه أكثر وأكبر من بحث من يقرأ أصلاً من الأصول، لا كما يصنعه كثير ممن أكب عليه: من اعتمادهم على ما نقل، وتقليدهم إياه فيما رأى وذهب إليه من تصحيح، أو تسقيم".

وقال مغلطاي في إكماله وهو يتعقب المزي (1/260) بذلك: "وذكر المزي هذا عن الكلاباذي من غير أن يعزوه لقائله الأصلي، على أن الكلاباذي نفسه عزاه لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وذلك موجود في تاريخه الكبير الذي هو بيد غالب طلبة الحديث، فالعدول عن النقل منه إلى غيره قصور، إذ لو كان الكلاباذي استقل بذكر ذلك، كيف وقد خرج من عهدته بعزوه لأستاذ الدنيا الذي يفتخر العلماء بنقل كلامه".

وقال في (2/51): "قال المزي مقلدًا اللالكائي:لم يذكره البخاري في تاريخه، وهذا كما أنبأتك إنه في غالب أحواله يقلد غيره ولا يراجع الأصول".

وقال الذهبي في السير معلقًا على طريقة ابن الجوزي في مؤلفاته (21/378): "هكذا هو له أوهام وألوان من ترك المراجعة، وأخذ العلم من صحف، وصنف شيئًا لو عاش عمرًا ثانيًا لما لحق أن يحرره ويتقنه".

وقال برهان الدين الناجي في عجالة الإملاء (137): "وقد وهم الحاكم في مستدركه على البخاري ومسلم فنسب إليهما أنهما اتفقا على إخراج هذا الحديث، وإنما هو مما انفرد بروايته البخاري عن مسلم قطعًا، وهو أحد ما استدرك عليه فيما استدركه، وهو عجيب كثير قلده المصنف فيه استرواحًا في مواضع، وأعجب منه أن حافظ عصره الشيخ زين الدين العراقي في إملائه المستخرج على المستدرك -وهو محل التعقب والاستدراك- لم يتنبه لعزوه إليه، بل حكاه عنه وأقره عليه تقليدًا له، ولا خلاف بل ولا خفاء أن مسلمًا لم يرو الحديث ... فتنبه لما وقع لهذين الإمامين، لا سيما شيخ شيوخنا الإمام العراقي من الغفلة والتقليد، ولا تغتر فتقلد، فكل شيء من هذه الأشياء يحتاج إلى تعب وكثرة مراجعة وتحرير، واعلم أن الكمال المطلق للواسع المحيط الذي لا يضل ولا ينسى". 

ولا شك أن الناقل بواسطة عن المصادر الأصلية قد يقع في أوهام وأخطأ وتصحيفات بسبب ذلك، وربما كان الخطأ محيلاً للكلام عن وجهه، مغيرًا له عن مراده، مغلقًا لقارئه عن فهمه، وقد وقفت على شيء منها أثناء مطالعتي لبعض كتب أهل العلم، فجمعت منها ما قد يكون فيه عظة وعبرة لي ولغيري من طلاب العلم في الاهتمام بالمصادر الأصلية، والرجوع إليها عند نقل المعلومات وتوثيقها، وقد قسمت هذه المقالة على أبواب تيسيرًا على قارئها، وتذليلاً لطالبها، فأقول مستعينًا بالله:

·    باب أسانيد الأحاديث ومتونها:

روى ابن ماجه في السنن (2/546) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن موسى بن سرجس، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت ...) الحديث.

فنسب ابن ماجه يزيد بقوله: (ابن أبي حبيب)، والذي في مصنف شيخه ابن أبي شيبة (15/167) يزيد مهملاً، قال ابن أبي شيبة: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد، عن موسى بن سرجس به.

والصواب أنه (يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد)، هكذا جاء في رواية أحمد (40/478، و41/30، و42/96)، والترمذي (2/298)، والنسائي (6/389)، وأبو يعلى (8/9)، والطبراني (23/34) وغيرهم.

قال ابن حجر في نتائج الأفكار (4/250): "وخالفهم جميعًا ابن ماجه، فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد كما أخرجناه، لكن قال: (عن يزيد بن أبي حبيب)، وكأنه نسبه من قبل نفسه، لكونه مصريًا والليث مصري"([3]).

مثال آخر: أخرج الضياء في المختارة (9/327) حديثًا من طريق الإمام أحمد قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: أخبرني أبي، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات ...) الحديث.

وبالرجوع إلى مسند الإمام أحمد الذي ساق منه الضياء الحديث نجده وقع فيه الأمر على ما يلي:

قال الإمام أحمد في المسند (26/34، و35): حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا عبدالرحمن بن أبي الموالي، قال: أخبرني نافع بن ثابت، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات ...) الحديث.

ثم قال بعده مباشرة في إثره: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: أخبرني أبي، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحرم من الرضاعة المصة والمصتان).

وكذلك وقع في أطراف المسند لابن حجر (3/8، و11).

فيكون وقع في نسخة الضياء تركيب متن حديث نافع بن ثابت على متن سند حديث هشام بن عروة، والله أعلم.

 مثال آخر: قال عبدالحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى في كتاب التيمم (1/222): "وذكر العقيلي عن صالح الناجي، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمسح المتيمم هكذا)، ووصف صالح من وسط رأسه إلى جبهته".

هكذا ورد فيه، وبالرجوع إلى المصدر الأصلي وهو كتاب الضعفاء للعقيلي (5/279) بعد أن ساق سنده من رواية محمد بن سليمان بن علي أمير البصرة، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يمسح اليتيم هكذا) ووصفه صالح من وسط رأسه إلى جبهته".

قال ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (2/198): "هذا نص ما أورد، وهو خطأ وتصحيف من عمله، وحققه عليه إدخاله إياه في التيمم، ولقد كان زاجرًا عن ذلك أنه لم يسمع قط لا في رواية، ولا في رأي بمسح الرأس في التيمم".   

وقال ابن حجر في اللسان (7/178): "وأغرب عبد الحق في الأحكام، فأورد حديثه هذا في كتاب الطهارة في باب التيمم، وصحف فيه تصحيفًا شنيعًا، تعقبه ابن القطان وبالغ في الإنكار عليه([4])، وهو معذور".

 

·       باب تصحيح الأحاديث والكلام عليها:

مثال: قال عبدالحق في الأحكام الوسطى له (2/154): "وذكر الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (موت الغريب شهادة)، ذكره في كتاب العلل في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه".

كذا قال، والدارقطني لم يصححه وإنما رجح طريقًا على طريق، وهذا نص كلامه في العلل له (12/): "وسئل عن حديث يروى عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (موت الغريب شهادة)؟ فقال: يرويه عبدالعزيز بن أبي رواد، واختلف عنه: فرواه هذيل بن الحكم، واختلف عنه، حدث به يوسف بن محمد العطار، عن عمرو بن علي، عن هذيل بن الحكم، عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، والصحيح ما حدثناه إسماعيل الوراق، قال: حدثنا حفص بن عمرو، وعمر بن شبة، قالا: حدثنا الهذيل بن الحكم، عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن عكرمة، عن ابن عباس  رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (موت الغريب شهادة)".

قال ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (2/263): "وليس فيه التصحيح للحديث لا من رواية ابن عمر ولا من رواية ابن عباس رضي الله عنهم، وإنما فيه تصحيحه عن هذيل بن الحكم ومن طريق ابن عباس لا من طريق ابن عمر رضي الله عنهم، وهو إذ قال: الصحيح عن هذيل بن الحكم أنه عنده عن ابن عباس لا عن ابن عمر، بمثابة ما لو قال: الصحيح عن ابن لهيعة، أو عن محمد بن سعيد المصلوب، أو عن الواقدي، فإن ذلك لا يقضي بصحة ما رووا([5])، لكن ما روى عنهم، وإنما سلك الدارقطني سبيل غيره من ذكر الخلاف على هذيل بن الحكم، وترجيح بعض ما روي عنه على بعض".

مثال آخر: قال النووي في الأذكار (1/388): "وروينا في سنن أبي داود، والترمذي بإسناد ضعيف ضعفه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم ...).

والذي وقع في سنن الترمذي (2/328): "هذا حديث غريب".

قال ابن حجر (الفتوحات الربانية 4/11): "لم أر في شيء من نسخ الترمذي تصريح الترمذي بتضعيفه".

مثال آخر: قال الحافظ ابن حجر في الدارية في تخريج أحاديث الهداية (1/31): "ولأصحاب السنن الثلاثة وصححه الترمذي والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ)".

وبالرجوع إلى كلام الترمذي على الحديث نجده قال في السنن (1/131): "وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب".

وفرق بين الجملتين ولا شك.

مثال أخر: قال ابن الملقن في البدر المنير (4/299): "وقال البيهقي في خلافياته: (وهم في رفعه، والصحيح وقفه على أبي أيوب رضي الله عنه)".

وهذا اختصار مخل لكلام البيهقي، والذي في الخلافيات (2/218): "وهم في رفعه، والصحيح رواية الحميدي وغيره عن ابن عيينة موقوفًا على أبي أيوب رضي الله عنه".

فالبيهقي قيد الوقف في كلامه برواية الحميدي وغيره عن ابن عيينة.

 

·                  باب الجرح والتعديل:

وهذا من أكثر الأمور التي ينبغي مراجعة المصادر الأصلية فيها، لكثرة ما يقع فيها من خلل أثناء النقل، وإليك الأمثلة.

قال الترمذي في السنن (2/390): "وسمعت محمد بن إسماعيل يذكر عن محمد بن عقبة قال: قال وكيع: زياد بن عبد الله مع شرفه يكذب في الحديث".

والذي في تاريخ البخاري (3/360): "وقال ابن عقبة السدوسي عن وكيع: هو أشرف من أن يكذب".

وكذا وقع في الضعفاء للعقيلي، والكامل لابن عدي، والمجروحين لابن حبان، وتهذيب الكمال للمزي.

وقال ابن حجر في موافقة الخبر الخبر (1/269): "والذي في تاريخ البخاري قال وكيع: "زياد أشرف من أن يكذب في الحديث، فلعل (لا) سقطت من جامع الترمذي".

واعتبره الذهبي في تاريخ الإسلام وهم من الترمذي (12/163).

مثال آخر: قال العقيلي في الضعفاء (5/57): "حدثنا عبدالله بن أحمد، قال: سمعت أبي قال: كنا بالبصرة وعرعرة حي فلم نكتب عنه شيئًا".

ووقع في العلل ومعرفة الرجال لعبدالله (2/317): "كنا بالبصرة وعرعرة حي فلم نقدر نكتب عنه شيئًا".

وفرق بين العبارتين، فالأولى: ظاهرها تركهم الكتابة عنه رغبة فيه، والثانية: ظاهرها أنهم تركوا الكتابة عنه لعدم تمكنهم من ذلك، لا رغبة عنه.

ومما يوضح ذلك أنه جاء في سؤالات أبي داود (344): "قلت لأحمد: عرعرة بن البرند؟ قال: ليس به بأس".

مثال أخر: قال ابن عدي في الكامل في ترجمة إسماعيل بن شروس (1/520): "قال عبدالرزاق: قال معمر: كان يضع الحديث".

وورد في كتاب التاريخ للبخاري (1/359): "قال عبدالرزاق: عن معمر: كان يثبج الحديث".

وكذا وقع في المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان وفي الضعفاء للعقيلي.

ومعنى يثبج يخلط.

مثال أخر: قال أبو أحمد الحاكم في الأسامي والكنى (157): "أبو هارون كلاب بن أمية الليثي، ويقال: كلاب بن علي، سمع أبا عبدالله عثمان بن أبي العاص الثقفي ... حديثه في البصريين، ولم يذكره البخاري ولا ابن أبي حاتم في كتابيهما".

ونقله ابن عساكر في تاريخ دمشق (50/275)، ولم يتعقبه، وقال في أول ترجمته: "كلاب بن أمية أبو هارون الليثي، روى عن واثلة بن الأسقع، وعثمان بن أبي العاص، روى عنه إبراهيم بن أبي عبلة ...".

وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير (7/235) فقال: "كلاب بن أمية، روى عنه إبراهيم بن أبي عبلة، قال: قدم علينا واثلة بن الأسقع ...".

مثال أخر: قال المقدسي في الكمال (1/43): "وقال أبو حاتم: هو ثقة صدوق، وقال ابنه عبدالرحمن: هو إمام أهل زمانه".

وتبعه المزي في تهذيب الكمال (1/323).

والذي في الجرح والتعديل (2/53): "وكان ثقة صدوقًا". حسب.

قال ابن حجر في تهذيبه (1/33): "ونقل المزي عن ابن أبي حاتم أنه قال فيه: (إمام أهل زمانه)، وهو وهم، فليس هذا في الجرح والتعديل، وقد نقله اللالكائي بسنده إلى أبي حاتم نفسه".

والمزي إنما قلد فيه صاحب الكمال.

مثال آخر: قال عبدالحق الأشبيلي في الأحكام الوسطى له (2/267): "قال أبو حاتم: يحيى بن أبي سفيان يعني الأخنسي هذا شيخ من شيوخ أهل المدينة ليس بالمشهور ممن يحتج به".

كذا وقع فيه، والذي في الجرح والتعديل (9/155) قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه؟ فقال: شيخ من شيوخ أهل المدينة ليس بالمشهور".

وليس فيه (ممن يحتج به).

مثال أخر: قال ابن الجوزي في التحقيق له (3/51) بعد أن ذكر حديثًا من طريق صخر بن عبدالله بن حرملة ثم قال: "وأما الخامس ففيه صخر بن عبدالله قال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالأباطيل، عامة ما يرويه منكر، أو من موضوعاته"([6]).

وبالرجوع إلى الكامل والوقوف على ترجمة صخر هذا يتبين أن ابن عدي تكلم على صخر بن عبدالله الكوفي وليس ابن حرملة الحجازي([7]).

قال ابن عدي: "صخر بن عبدالله الكوفي، سكن مرو وكان على المظالم بجرجان، يعرف بالحاجبي".

مثال آخر: قال الذهبي في الميزان في ترجمة أبان بن الوليد بن هشام المعيطي (1/16): "قال أبو حاتم: مجهول".

والذي في الجرح والتعديل (2/300): "مجهول الدار".

وكذا في تاريخ دمشق (6/162).

قال الحافظ في اللسان (1/230): "كذا هو في نسخة معتمدة".

مثال آخر: قال ابن حجر في تعجيل المنفعة (1/513): "وذكره الترمذي عقب حديث (الوضوء من لحوم الإبل)، وقال: ذو الغرة لا يدرى من هو".

وبالرجوع إلى جامع الترمذي (1/123) تحت هذا الحديث لا نجد شيئًا مما ذكره الحافظ رحمه الله، ولم يشر الحافظ إلى ذلك في الإصابة.

مثال أخر: قال مغلطاي في الإكمال له (1/321): "قال أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري في التاريخ الأوسط: قال يحيى بن سليم: لا يحتجون بحديثه".

والذي في التاريخ الأوسط هكذا (3/250): "إبراهيم بن يزيد أبو إسماعيل الخوزي مكي، وقال يحيى بن سليم: (إبراهيم بن يزيد بن مردانبة القرشي)، لا يحتجون بحديثه".

وأراد البخاري بذلك أن يبين أن يحيى بن سليم يسميه (إبراهيم بن يزيد بن مردانبة القرشي)، ثم استأنف الكلام فقال من عنده: (لا يحتجون بحديثه).

ومما يدل عليه أن البخاري قال في التاريخ الكبير (1/336): "... وقال يحيى بن سليم: إبراهيم بن يزيد بن مرذانبة القرشي)، ولم يزد بعده شيئًا.

وقال ابن عدي في كامله (1/266): "... البخاري قال: إبراهيم بن يزيد أبو إسماعيل الخوزي مكي لا يحتجون بحديثه".

فأضاف الكلام للبخاري لا ليحيى بن سليم.

تم بحمد الله ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

 

 

 

 



([1]) قال المعلمي في الفوائد المجموعة (43): يعني أنه أصول كتبه كانت صحيحة، ولكنه كان ينتقي منها أحاديث يكتبها في أجزاء، ثم يحدث عن تلك الأجزاء، فقد يقع له خطأ عند التحويل، فيقع بعض الأحاديث في الجزء خطأ فيحدث به.

([2]) انظر مثالاً على ذلك: تهذيب الكمال (35/113)، وتحفة الأشراف للمزي (1/28)، وإتحاف المهرة لابن حجر (5/400).

([3]) ووقع مثل هذا الخطأ لمحمد بن منصور الطوسي في حديث أخر فنسب فيه يزيد إلى (ابن أبي حبيب). انظر: المختارة للضياء (3/131).

([4]) وهذا ما جعل ابن دقيق العيد يغمز ابن القطان بذلك، فقال في الإمام له (3/160): قد بين ما ذكر، ولكنه في بعض ألفاظه خشن، ولو ترك ذلك في حق هذا الرجل الصالح لكان حسنًا.

([5]) انظر مثالاً عليه: تاريخ مدينة السلام (12/320).

([6]) وابن الجوزي كثير الأوهام في النقل فليتنبه له. قال ابن المجد: هو كثير الوهم جدًا.

وقال السيف: سمعت ابن نقطة يقول: قيل لابن الأخضر: ألا تجيب عن بعض أوهام ابن الجوزي؟ قال: إنما يتتبع على من قل غلطه، فأما هذا، فأوهامه كثيرة. انظر: سير أعلام النبلاء (21/382).

([7]) انظر: لسان الميزان لابن حجر (4/308).

الأربعاء، 11 أغسطس 2021

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

وبعد

فهذا تخريج لحديث جابر رضي الله عنه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاث أيام واستجيب له في يوم الأربعاء.

فأقول وبالله التوفيق: (الحديث لا يصح من جميع طرقه)، وله عدة روايات، وإليك تفصيلها والكلام عليها:

الرواية الأولى:

الحديث رواه كثير بن زيد، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر رضي الله عنه قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثًا: يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه). قال جابر t: (فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة، فأدعو فيها فأعرف الإجابة).

أخرجه: أحمد في المسند واللفظ له (22/425)، والبزار عن محمد بن المثنى وعمرو بن علي ومحمد بن معمر ( كشف الأستار 1/216)، وابن عبدالبر في التمهيد من طريقهم وطريق محمد بن بشار (7/595، و596)، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن من طريق أحمد (2/312)، وابن النجار في الدرة الثمينة في أخبار المدينة من طريقه (346)، والمطري في التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة كذلك (140)، كلهم عن أبي عامر العقدي، عن كثير بن زيد به.

وفي لفظ للبزار من رواية ابن المثنى (في مسجد قباء).

وخالفه: عبيدالله بن عبدالمجيد الحنفي، وسفيان بن حمزة، وعبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد، وأبو عامر العقدي -من رواية محمد بن مروان عنه- فرووه عن كثير بن زيد، فقالوا: عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر رضي الله عنه (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الأحزاب: يوم الإثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء، بين الصلاتين: الظهر والعصر، فعرفنا البشر في وجهه)، قال جابر رضي الله عنه: (فلم ينزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت تلك الساعة من ذلك اليوم فدعوت الله، فأعرف الإجابة).  

أخرجه: ابن سعد في الطبقات عن عبيدالله بن عبدالمجيد واللفظ له (2/73)، والبخاري في الأدب المفرد من طريق سفيان بن حمزة (243)، والغَطْريف في جزءه من طريق عبيدالله (107)، والبيهقي في الشعب من طريق عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد (5/387)، وابن عبدالبر في التمهيد من طريق محمد بن مروان (7/596)، وعبدالواحد المقدسي في الترغيب في الدعاء من طريق عبيدالله (87)، كلهم عن كثير بن زيد به.

وفي لفظ البخاري (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد مسجد الفتح ... بين الصلاتين) ولم يبينهما.

وخالفهم جميعًا: الواقدي، فرواه في المغازي (2/488)، قال: حدثني كثير بن زيد، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب في مسجد الأحزاب: يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء)، قال: (فعرفنا السرور في وجهه)، قال جابر رضي الله عنه: (فما نزل بي أمر غائظ مهم إلا تحينت تلك الساعة من ذلك اليوم، فأدعو الله فأعرف الإجابة).

وخالفهم أيضًا: عبدالعزيز بن عمران، فرواه عن كثير بن زيد، عن المطلب بن حنطب قال: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأعلى على الجبل، يوم الأثنين، ويوم الثلاثاء، واستجيب يوم الأربعاء بين الصلاتين).

أخرجه: أبو غسان الكناني في أخبار المدينة (98)، وعنه عمر بن شبة في تاريخ المدينة (1/58)، قال أبو غسان: أخبرني عمران بن عبدالعزيز به.

الكلام على الروايات:

أولاً: الحديث قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/509): "رواه أحمد والبزار وغيرهما، وإسناد أحمد جيد".

وقال الهيثمي في المجمع (4/12): "رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد ثقات".

وحسنه العلامة الألباني في تحقيق الأدب المفرد.

أقول: الحديث معلول من وجوه:

الوجه الأول: في سنده كثير بن زيد، وقد تكلم فيه جمهور النقاد، وإن وثقه بعضهم.

قال  ابن المديني في سؤالات ابن أبي شيبة (95): "صالح، وليس بالقوي".

وقال ابن أبي خيثمة: "وسئل يحيى بن معين عن كثير بن زيد يروي عنه عبدالحميد الخثعمي؟ قال: ليس بذلك القوي، وكان قال أولاً: ليس بشيء".

وقال في رواية ابن محرز (1/70): "ضعيف".

وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (7/150): "صالح، ليس بالقوي، يكتب حديثه".

قال أبو زرعة: "هو صدوق، فيه لين".

وقال يعقوب بن شيبة: "ليس بذاك الساقط، وإلى الضعف ما هو"([1]).

وقال النسائي في الضعفاء (206): "ضعيف".

وقال أبو جعفر الطبري: "وكثير بن زيد عندهم ممن لا يحتج بنقله"([2]).

وقال ابن حبان في المجروحين (2/227): "كثير بن زيد، يروي عن عبدالله بن كعب بن مالك([3])، وهو الذي يقال له: كثير بن النضر، روى عنه عبيدالله بن عبدالمجيد، كان كثير الخطأ على قلة روايته، لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد"([4]).

وقال الحافظ في التقريب (808): " صدوق يخطئ".

وقد تفرد به وحاله لا تحتمل ذلك.

قال البزار: "لا نعلمه يروى عن جابر رضي الله عنه إلا بهذا الإسناد".

الوجه الثاني: أنه اضطرب في سنده، فمرة يقول: (عن عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك)، ومرة يقول: (عبدالرحمن بن كعب بن مالك)، ومرة يقول: (عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك)، ومرة يقول: (عن المطلب بن حنطب)، وهذا الوجه الأخير راويه عبدالعزيز بن عمران، قال عنه الحافظ (615): "متروك".

الوجه الثالث: فيه شيخه عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري كما وقع في رواية أبي عامر العقدي، وهي أشبه الروايات عندي كما سيأتي تقريره إن شاء الله.

قال البخاري في التاريخ الكبير (5/133): "عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، روى عنه عبدالله بن محمد بن عقيل، وعاصم بن عبيدالله".

وتبعه ابن حبان في ثقاته (7/3).

وذكره ابن أبي حاتم في كتابه ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فقال (5/95): "عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، روى عن أبيه، روى عنه عبدالله بن محمد بن عقيل، سمعت أبي يقول ذلك".

ولم يذكروا جابرًا رضي الله عنه فيمن روى عنه، ولا كثير بن زيد في الرواة عنه.

وقال الحسيني في الإكمال (1/467): "عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري، عن أبيه، وجابر t، وعنه كثير بن زيد، وعبدالله بن محمد بن عقيل فيه نظر".

وأقره ابن حجر كما سيأتي، لكنه فرق بين الذي روى عن أبيه، وروى عنه ابن عقيل، وبين الذي روى عن جابر رضي الله عنه، وروى عنه كثير بن زيد.

قال السخاوي في التحفة اللطيفة (2/52): "مات مقتولاً يوم الدار مع عثمان رضي الله عنه".

ولم أقف على مستنده في ذلك.

وأما الدمياطي فلم يذكر في كتاب أخبار قبائل الخزرج (2/846) لعبدالرحمن ابن اسمه: عبدالله، مع أنه ذكر ذريته حتى البنات، فيستدرك به عليه.

الوجه الرابع: أن القلب لا يسكن لسماع كثير بن زيد من جابر رضي الله عنه، فإن البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان لم يذكروا جابرًا ضمن من روى عنهم، ولو كان روى عنه ما أغفلوا ذلك أبدًا.

ثانيًا: قال عبيدالله بن عبدالمجيد الحنفي، وسفيان بن حمزة، وعبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد في روايتهم عن كثير بن زيد: (عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك) وهو خطأ، وعندي أنه من كثير بن زيد كان يضطرب فيه، ومما يؤيد ذلك أن الزهري لم يرو عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك وهو أكبر من كثير بن زيد، فكيف يروي كثير بن زيد عنه؟! وقد توفي كثير في آخر حلافة المنصور، والمنصور مات حاجًا سنة (158 هـ)([5])، والزهري مات سنة (125هـ)، وقيل قبلها بسنة أو سنتين.

قال أحمد بن صالح: "لم يسمع الزهري من عبدالرحمن بن كعب بن مالك شيئًا، والذي يروي عنه: عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك"([6]).

قال ابن حجر في تهذيبه (6/232): "ولم يذكره النسائي في شيوخ الزهري، إنما ذكر ابن أخيه حسب([7])".

وعبدالرحمن بن كعب بن مالك توفي في خلافة سليمان بن عبدالملك، وسليمان توفي سنة (99هـ)([8]).

وبما سبق تقريره تعلم مجانبة الذهبي للصواب في تاريخ الإسلام (9/579) عندما أدرج اسم (عبدالرحمن بن كعب بن مالك) ضمن من روى عنهم كثير بن زيد، وهذا منه رحمه الله اغترار بظاهر السند.

ثالثًا: وقع في رواية الواقدي (عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك)، وأظنه انقلب عليه اسم الراوي، وهو متروك، وقد خالفه: أبو عامر العقدي، وهو أحفظ منه، اللهم إلا يكون هذا الاضطراب من كثير بن زيد، ولا أبعده.

قال ابن حجر في تعجيل المنفعة (153): "(عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري، عن أبيه، وجابر t، وعنه كثير بن زيد، وعبدالله بن محمد بن عقيل فيه نظر). قلت: أما الذي روى عن جابر t، وروى عنه كثير بن زيد فهو كما ذكر، وحديثه عن جابر t في الدعاء في مسجد الفتح، وأما الذي روى عن أبيه، وروى عنه ابن عقيل، فالذي أظنه أنه انقلب، وأنه (عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك)([9]) شيخ الزهري، وهو مترجم في التهذيب، ولكن ذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات كالذي وقع هنا، فلعله ابن عمه، والله أعلم".

وعبدالرحمن هذا ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/249)، فقال: "عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك السلمي الأنصاري المديني، روى عن أبيه، وجابر رضي الله عنه، روى عنه الزهري سمعت أبي يقول ذلك".

ولم يزد على ذلك، ومن ترجم له لم يذكر فيمن روى عنه: كثير بن زيد.

ثالثًا: المحفوظ عن أبي عامر العقدي رواية الجماعة عنه، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، وأما رواية محمد بن مروان البصري عنه، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، فهي خطأ منه لمخالفته رواية الجماعة.

رابعًا: قوله (في مسجد قباء) خطأ من محمد بن المثنى، فقد خالف فيه كل من رواه عن أبي عامر العقدي: الإمام أحمد، وعمرو بن علي، ومحمد بن معمر، ومحمد بن بشار، ومجمد بن مروان.

وبهذا التقرير تعلم أنه الحديث لا يصلح للتحسين من هذا الوجه فضلاً عن التصحيح.


 

الرواية الثانية:

روى أبو غسان الكناني في أخبار المدينة (99)، وعنه عمر بن شبة في تاريخ المدينة (1/58)، قال أبو غسان: عن سعيد بن معاذ الديناري، عن ابن أبي عتيق، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأعلى يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، واستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين).

الكلام على الرواية:

ابن أبي عتيق المعروف به هو: عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن، قال المزي في تهذيبه (16/65): "عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي المدني، المعروف بابن أبي عتيق".

قال عنه الحافظ في التقريب (865): "صدوق".

ولم يذكر في ترجمته أنه روى عن جابر رضي الله عنه، وأخشى أن يكون وقع تصحيف في اسمه.

وسعيد بن معاذ الديناري لم أجد له ترجمة، ووقع في طبعة أخبار المدينة لابن شبة (سعد) طبعة دار التراث، فالله أعلم بحقيقة أمره.

 

 

 

 


الرواية الثالثة:

روى أبو غسان الكناني في أخبار المدينة (100)، وعنه عمر بن شبة في أخبار المدينة (1/60)، قال أبو غسان: عن ابن أبي يحيى، عن خالد بن رباح، عن المطلب بن عبدالله بن حنطب (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاثنين في مسجد الفتح، واستجيب له عشية الأربعاء بين الصلاتين).

الكلام على الرواية:

الحديث لا يصح، فيه علل:

الأول: في سنده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروك قاله ابن حجر في التقريب (115).

الثاني: في سنده خالد بن رباح في عداد المجهولين.

قال ابن ماكولا في الإكمال (4/12): "خالد بن رباح الحجازي، حدث عن المطلب بن عبدالله بن حنطب، روى عنه أبو بكر بن عبدالله بن أبى سبرة المديني".

وقال الحسيني في التذكرة (1/409): "خالد بن رباح الحجازي، عن المطلب بن عبدالله بن حنطب، وعنه أبو بكر بن عبدالله بن أبي سبرة، وإبراهيم بن محمد بن (أبي) يحيى وغيرهما".

وذكره الحافظ في تعجيل المنفعة (1/489)، ولم يزد على ما ذكره الحسيني.

الثالث: أنه مرسل.

 

 


الرواية الرابعة:

روى ابن أبي ذئب، عن رجل من بني سلِمة، عن جابر بن عبدالله رضي الله (أَن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد -يعني الأَحزاب- فوضع رداءه وقام، ورفع يديه مدا، يدعو عليهم، ولم يصل، قال: ثم جاء ودعا عليهم وصلى).

أخرجه: أبو غسان الكناني في أخبار المدينة (100)، الواقدي في المغازي تعليقًا (2/488)، والطيالسي (3/323)، وأحمد في المسند عن حسين بن محمد المَرُّوذي واللفظ له (23/392)، وابن شبة من طريق الواقدي (1/61)، كلهم عن ابن أبي ذئب به.

وفي لفظ الواقدي (قام رسول الله e على الجبل الذي عليه المسجد، فدعا في إزار ورفع يديه مدًا، ثم جاء مرة أخرى فصلى ودعا)، وفي لفظ الطيالسي (لما أصابه الكرب يوم الأحزاب، ألقى رداءه، وقام متجردًا، ورفع يديه مدًا، ودعا ولم يصلي، قال: ثم أتانا ففعل مثل ذلك وصلى)، وفي لفظ ابن شبة (دعا رسول الله e في المسجد المرتفع ورفع يديه مدًا).

الكلام على الروايات:

إسناد الحديث ضعيف، فيه الرجل المبهم، ولا أدري هل سمع من جابر رضي الله عنه أو لا؟.

وليس فيه تعين للوقت على ضعفه.

 

الخلاصة:

الحديث لا يصح من جميع طرقه، والله أعلم.


 

التعريف بمسجد الفتح:

قال ابن النجار في الدر الثمينة (349): "وهذا المسجد على رأس جبل يصعد إليه بدرج، وقد عمر عمارة جديدة، وعن يمينه في الوادي نخل كثير، ويعرف ذلك الموضع: بـ (السيح)، ومساجد حوله وهي ثلاثة: قبلة الأول منها خراب، قد هدم وأخذت حجارته، والآخران معموران بالحجارة والجص، وهما في الوادي عند النخل".

وقال الفيروزآبادي في المغانم المطابة في معالم طابه (2/647): "مسجد الفتح: وهو مسجد على قطعة من جبل سلع جهة الغرب، وغربيه وادي بطحان، وفيه عيون تجري بعضها، وبعضها لا ماء فيه، وهذا الموضع يعرف بالسيح، ويصعد إلى هذا المسجد من درجتين طويلتين إحداهما شمالية والأخرى شرقية، وكان فيه ثلاث أسطوانات قبل هذا البناء  الذي هو عليه اليوم من يوم بناه عمر بن عبدالعزيز فتهدم على ممر السنين، إلى أن جدد بناءه الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء أحد وزراء العبيدين بمصر سنة خمس وسبعين وخمسمائة،  وكذلك جدد بناء المسجدين اللذين بقربه على وجه الأرض من جهة قبلة مسجد الفتح، ويعرف الأول بمسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثاني يلي الشمال ويعرف بمسجد سلمان الفارسي رضي الله عنه، جدد بناء هذين المسجدين في سنة سبع وسبعين وخمسمائة".

وقال السمهودي في وفاء الوفاء بأخبار المصطفى (3/181): "... والمساجد التي حوله في قبلته، وتعرف اليوم كلها بمساجد الفتح، والأول المرتفع على قطعة من جبل سلع في المغرب، غربيه وادي بطحان، وهو المراد بمسجد الفتح حيث أطلقوه، ويقال له: مسجد الأحزاب، والمسجد الأعلى".

سبب تسميته بمسجد الفتح:

قال الفيروزآبادي في المغانم (2/647): (وأما تسميته بمسجد الفتح فيحتمل أنه سمي به لأنه أجيب فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فكان فتحًا على الإسلام، أو أنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم سورة الفتح هناك).

قال السمهودي في وفاء الوفاء (3/187): "وبالثاني جزم ابن جبير في رحلته".

أما الاحتمال الأول فظاهره أنه سمي بذلك في العهد النبوي وهذا لا يصح، فالأحاديث التي وردت بذلك كلها ضعيفة، وأما الثاني فإن سورة الفتح إنما نزلت بعد ذلك في سنة ست للهجرة، وغزوة الأحزاب في قول الجمهور كانت في سنة خمس، وقيل: في سنة أربع.

قال ابن كثير في التفسير (4/185): "نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية من سنة ست من الهجرة".

ثم قال الفيروزآبادي (2/648): "فينبغي للمصلي بمسجد الفتح أن يدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك".

أقول: هذا يعتمد على صحة الخبر، والخبر لم يصح، فلا ينبغي زيارته فضلاً عن الدعاء فيه.

قال ابن تيمية: "وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء، وأما سائر المساجد فلها حكم المساجد، ولم يخصها النبي صلى الله عليه وسلم بإتيان، ولهذا كان الفقهاء من أهل المدينة لا يقصدون شيئًا من تلك الأماكن إلا قباء خاصة".

وقال العلامة بكر أبو زيد في كتابه تصحيح الدعاء (103): "قصد المساجد المكذوبة والمحدثة للدعاء ولغيره من أنواع التعبد، ومن هذه المساجد التي لا يصح فيها شيء، ولا يجوز قصدها للدعاء لزعم خصوصية لا تثبت لها ... المساجد السبعة ... فهذه لا تشرع زيارتها بل هي بدعة".

ثم قال الفيروزآبادي (2/645) عن استجابة الدعاء فيه: "قال بعض العلماء: وذلك مجرب فيه".

أقول: العبادات لا تشرع بالتجربة، بل بالدليل الشرعي.

قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (215): "السنة لا تثيب بمجرد التجربة، ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدًا أنه سنة عن كونه مبتدعًا".

وقال المعلمي رحمه الله في كتابه العبادة (668): "لم يقل أحد من أهل العلم إن الدين يؤخذ بالتجربة، ولكن كثيرًا ممن يظن بهم الصلاح وهم عن حقيقة الدين غافلون، أخذوا يشرعون في دين الله بغير إذنه، ويعتمدون في ذلك على التجربة".

ولعل من نقل عنهم الفيروزآبادي هذا الكلام من هذا الصنف، وإلا لو كانوا علماء حقيقيون لم يشرع في دين الله بلا دليل.

 

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب:

أخرج البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما يقول: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب على المشركين، فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).

وأخرجا من حديث علي رضي الله عنه قال: (لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا شغلونا عن الصلاة).

وليس فيهما بيان لمكان ولا لزمان.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين.



([1]) انظر: تاريخ دمشق (50/25).

(1) انظر: تهذيب التهذيب (8/361).

([3]) هكذا قال، وصوابه: عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب، أو عبدالرحمن بن كعب بن مالك على اختلاف الروايات فيه.

(2) وقد أورده ابن حبان في الثقات (7/354)، وكأنه يفرق بينه وبين كثير بن زيد مولى الأسلميين، والصواب أنهما واحد.

([5]) انظر: تهذيب الكمال للمزي (24/116).

([6]) انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (190).

([7]) يعني: عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك.

([8]) انظر: تاريخ مولد العلماء ووفياتهم للربعي (1/235).

(5) قال الحافظ عنه في التقريب (586): ثقة عالم.