بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه
وعلى أله وأصحابه وأزواجه والتابعين.
وبعد:
فهذا
بحث مختصر في تخريج حديث صيام العشر من ذي الحجة، وذكر الاختلاف الوارد في أحاديث
صيامها، وتعامل العلماء معها، وقد قسمته إلى مباحث، فأقول مستعينًا بالله:
المبحث
الأول:
الحديث الدال على عدم صيامها:
·
حديث عائشة رضي الله عنها:
روى
الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم صام العشر قط).
أخرجه:
ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي معاوية واللفظ له (5/542)، وأحمد في المسند عن أبي
معاوية ويعلى وطريق أبي عوانة وطريق سفيان الثوري (40/177، و178، و41/405،
و42/366)، وإسحاق بن إبراهيم في المسند عن أبي معاوية (3/846)، ومسلم في الصحيح من
طريقه وطريق سفيان (3/176)، وأبو داود في السنن من طريق أبي عوانة (2/816)،
والترمذي في السنن من طريق أبي معاوية (2/121)، والنسائي في الكبرى من طريقه وطريق
الثوري وطريق حفص بن غياث (3/243)، والبزار في المسند من طريق أبي معاوية (شرح ابن
ماجه لمغلطاي1/248)، وابن خزيمة في صحيحه من طريق أبي خالد وطريق الثوري (3/293)، وأبو
عوانة في الصحيح من طريق أبي معاوية وأبي عوانة ويعلى بن عبيد (2/243، و244)، وأبو
القاسم عبدالله بن محمد البغوي في مسند علي بن الجعد من طريق أبي معاوية (265)،
والطحاوي في المشكل من طريق أبي عوانة وطريق أبي معاوية (7/415)، والمحاملي في
الأمالي من طريق الفرات بن سليمان (276)، والجرجاني في الأمالي من طريق يعلى بن
عبيد (ق 163/أ)، وابن حبان في الصحيح من طريق أبي معاوية (8/372)، وأبو نعيم في
المسند المستخرج من طريقه وطريق الثوري (3/261، و262)، والبيهقي في السنن الكبير
من طريق يعلى بن عبيد وطريق أبي معاوية (4/285)، والخطيب في تاريخه من طريق يعلى
بن عبيد (2/274)، والبغوي في شرح السنة من طريق أبي معاوية (6/247)، كلهم عن
الأعمش به.
وفي
لفظ لأحمد وللمحاملي (صائمًا أيام العشر قط)، وفي لفظ له ولإسحاق ومسلم والنسائي وابن
خزيمة وأبي عوانة وأبي القاسم البغوي والطحاوي والبيهقي والبغوي (صائمًا في العشر
قط)، وبنحوه الجرجاني، وفي لفظ لمسلم والنسائي وابن خزيمة وأبو نعيم في رواية (لم
يصم العشر)، وفي لفظ الخطيب (ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم أقف على
تصريح بالسماع للأعمش فيه من إبراهيم.
وتابع
الأعمش:
منصور بن المعتمر، فرواه عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام العشر قط).
أخرجه:
ابن ماجه في السنن عن هناد بن السري (2/621)، وابن حبان في الصحيح من طريق يحيى بن
طلحة اليَرْبُوعي (4/288)، كلاهما عن أبي الأحوص، عن منصور به.
وزاد
ابن حبان في لفظه (ولا خرج من الخلاء إلا مس ماء).
قال
المزي في تحفة الأشراف (11/374): "ق في الصوم عن أبي بكر، عن أبي الأحوص، عن
منصور به، ز في رواية إبراهيم بن دينار (هناد بن السري) بدل (أبي بكر)".
وتابع
أبا الأحوص:
الثوري، فرواه عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها به.
أخرجه:
الدارقطني في العلل (15/75) من رواية عبدالله بن محمد بن النعمان، عن محمد بن
المنهال، عن يزيد بن زريع، عن الثوري، عن منصور به.
وكذلك
رواه معمر بن سهل الأهوازي، عن أبي أحمد الزبيري، عن الثوري به.
وخالف
أبا الأحوص:
جرير بن عبدالحميد، والثوري -من رواية علي بن الجعد وعبدالرزاق عنه-، وفضيل بن
عياض، فرووه عن منصور، عن إبراهيم (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر).
أخرجه
من هذا الوجه: عبدالرزاق في المصنف عن الثوري (4/378)، وابن أبي شيبة في المصنف عن
جرير واللفظ له (5/542)، وإسحاق بن إبراهيم في المسند عنه (3/847)، وأبو القاسم
البغوي في مسند ابن الجعد من طريق الثوري (265)، كلاهما عن منصور به مرسلاً.
وزاد
فيه إسحاق (ولا خرج من الخلاء إلا مس ماء)، وفي لفظ عبدالرزاق وأبي القاسم (حدثت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وذكر
الدارقطني في العلل (15/75) رواية الفضيل تعليقًا ولم أقف عليها.
الكلام
على الروايات:
أولاً:
المحفوظ عن منصور هي رواية الثوري وجرير بن عبدالحميد ومن وافقهما، قال يحيى بن
معين (مسند ابن الجعد 143): "لم يكن أحد أعلم بحديث منصور من الثوري".
وقيل
ذلك أيضًا في جرير قاله العطار في غرر الفوائد (206).
وأما
رواية أبي الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها فهي
خطأ منه، ولو لم يخالف إلا الثوري لكفى فهو أعلم الناس بحديث منصور كما تقدم، كيف
وقد تابعه عليها جرير بن عبدالحميد.
وقد
روي عن أبي الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن عائشة رضي الله عنها، بإسقاط الأسود من
سنده، ذكرها الترمذي، وأبو حاتم كما سيأتي بعد، فإن كانت محفوظة عنه فهذا يدل على
اضطرابه في الحديث وعدم ضبطه له.
ثانيًا:
رواية عبدالرحمن بن مهدي ويزيد بن زريع، عن الثوري، عن الأعمش صحيحة، وكذلك رواية
علي بن الجعد وعبدالرزاق عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم مرسلاً صحيحة، وأما
رواية أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة
رضي الله عنها فخطأ، ولعله من الراوي عنه معمر بن سهل الأهوازي قال عنه ابن حبان
في ثقاته (9/196): "شيخ متقن يغرب".
ولا
تنفعه متابعة عبدالله بن محمد بن النعمان -وثقه أبو الشيخ في طبقاته (3/289)-، عن
محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، فقد خالفه حميد بن مسعدة، فرواها عن يزيد بن
زريع، عن الثوري، عن الأعمش.
قال
الدارقطني في الغرائب والأفراد (الأطراف 2/423): "تفرد به عبدالله بن محمد بن
النعمان الأصبهاني، عن محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن الثوري، عن منصور، عن
إبراهيم عنه".
ولعل
الخطأ فيه من عبدالله بن محمد بن النعمان، فإن محمد بن المنهال من أثبت أهل البصرة
في يزيد بن زريع قاله أبو يعلى الموصلي (تهذيب التهذيب 9/409).
ثالثًا:
حديث عائشة رضي الله عنها اختلف النقاد فيه، فبعضهم يصحح رواية الأعمش الموصولة
ويرجحها على رواية منصور: كالإمام مسلم والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم.
قال
الترمذي في السنن (2/121): "هكذا رواه غير واحد عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
الأسود عن عائشة رضي الله عنها، وروى الثوري وغيره هذا الحديث، عن منصور، عن
إبراهيم (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير صائمًا في العشر)، وروى أبو الأحوص،
عن منصور، عن إبراهيم، عن عائشة رضي الله عنها، ولم يذكر فيه الأسود، وقد اختلفوا
على منصور في هذا الحديث، ورواية الأعمش أصح وأوصل إسنادًا، وسمعت محمد بن أبان
يقول: سمعت وكيعًا يقول: الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور".
وذهب
أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني إلى أن الراجح هي رواية منصور.
قال
ابن أبي حاتم في العلل (3/170): "سألت
أبي وأبا زرعة عن حديث رواه أبو عوانة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن
عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام العشر من ذي الحجة
قط)، ورواه أبو الأحوص، فقال: عن منصور، عن إبراهيم،
عن عائشة رضي الله عنها فقالا:
هذا خطأ، ورواه الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم قال: (حُدثث عن النبي صلى
الله عليه وسلم).
وقال
الدارقطني في العلل (15/75): "والصحيح عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم،
قال: (حُدِّثت أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم)،
وكذلك رواه أَصحاب منصور، عن منصور مرسلاً، منهم: فضيل بن عياض، وجرير".
وقال
في التتبع (353): "وأخرج مسلم حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة
رضي الله عنها (ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم
العشر) قال أبو الحسن: وخالفه: منصور، رواه عن إبراهيم مر سلاً".
وهذا
الذي يظهر لي لأمور:
الأمر
الأول: أن جمهور النقاد على ترجيح رواية منصور عن إبراهيم على الأعمش.
قال
عبدالرحمن بن مهدي (مسند ابن الجعد 141): "لم يكن بالكوفة أثبت من أربعة:
فبدأ بمنصور، وأبو حصين، وسلمة بن كهيل، وعمرو بن مرة، قال: وكان منصور أثبت أهل
الكوفة".
وقال
علي بن المديني (السابق 131): "سمعت يحيى سئل عن: أي أصحاب إبراهيم أحب إليك؟
قال: إذا جاءك عن منصور فلقد ملأت يديك لا تريد غيره".
وقال
يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (3/12): "قال علي: أثبت الناس في إبراهيم:
منصور، والحكم، كان يحيى القطان يقول: هما سواء لا نفضل بينهما، ثم فضيل بن عمرو،
عن سليمان الأعمش، وحدثني الفضل قال: سمعت أبا عبدالله وقيل له: إذا اختلف منصور
والأعمش، عن إبراهيم فبقول من تأخذ؟ قال: بقول منصور، فإنه أقل سقطًا".
فبين
الإمام أحمد رحمه الله سبب ترجيح منصور بن المعتمر على الأعمش، وهو قلة خطئه، وهذا
من أقوى الأسباب في ترجيح الرواة بعضهم على بعض.
وقال
علي بن المديني (الجرح والتعديل 8/177): "سمعت يحيى بن سعيد قال: قال سفيان:
كنت لا أحدث الأعمش عن أحد إلا رده، فإذا قلت: منصور، سكت".
وقال
ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/177): "وسمعت
يحيى بن معين وأبي حاضر: إذا اجتمع منصور والأعمش فقدم منصورًا".
وقال
النووي في شرح مسلم (1/53): "وأما منصور بن
المعتمر فليس بتابعي، وإنما هو من أتباع التابعين، فكان ينبغي أن يقول: إذا وازنتهم
بإسماعيل والأعمش ومنصور، وجوابه: أنه ليس المراد هنا التنبيه على مراتبهم، فلا حرج
في عدم ترتيبهم، ويحتمل أن مسلمًا قدم منصورًا لرجحانه في ديانته وعبادته، فقد كان
أرجحهم في ذلك، وإن كان الثلاثة راجحين على غيرهم، مع كمال حفظ لمنصور وإتقان
وتثبت".
وقال
الحافظ ابن حجر في هدي الساري (350): "ومنصور عندهم أتقن من الأعمش".
الأمر
الثاني: أن الحديث لو كان عند إبراهيم النخعي موصولاً ما حدث به مرسلاً.
فإن
قال قائل: فإن أهل العلم يقولون: مراسيل إبراهيم النخعي صحاح، قال ابن معين في
التاريخ رواية الدوري (3/207): "ومرسلات إبراهيم صحيحة إلا حديث تاجر البحرين،
وحديث الضحك في الصلاة".
فالجواب:
أن إبراهيم يروي عن قوم مجاهيل.
قال
البيهقي في المدخل (1/402): "... هذا عذر من احتج بمراسيل إبراهيم النخعي،
وليس ذلك بعذر لازم، فإنا نجده يروي عن أكابر أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله
عنه، ثم نجده يروي عن قوم مجهولين، لا يروي عنهم غيره، مثل: هُني بن نُويرة،
وخزامة الطائي، وقَرْثع الضبي، ويزيد بن أوس، وغيرهم".
وقال
الذهبي في الميزان (1/204): "الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن
مسعود رضي الله عنه وغيره فليس ذلك بحجة".
فإن
قيل: إن المرسل صحيح والموصول أيضًا صحيح عملاً بقول أهل العلم: "إن الراوي قد
ينشط تارة فيسند، ويفتر أخرى فيرسل".
فالجواب
أن يقال: هذه القاعدة صحيحة، استعملها كبار الأئمة كأحمد (شرح علل الترمذي لابن
رجب2/679)، ومسلم في المقدمة (1/133)، والدارقطني في العلل (1/253)، لكن ليست على إطلاقها،
لأنه يلزم من ذلك أن كل ما تعارض وصل وإرسال قدمنا الوصل على الإرسال بتلك القاعدة،
وتصرفات الأئمة النقاد بخلاف ذلك، بل يعملون القرائن في مثل هذا المقام.
قال
العلائي في نظم الفرائد (367): "... يرجع إلى قول الأكثر عددًا، لبعدهم عن
الغلط والسهو، وذلك عند التساوي في الحفظ والإتقان، فإن تفارقوا واستوى العدد،
فإلى الأحفظ والأكثر إتقانًا، وهذه قاعدة متفق على العمل بها عند أهل
الحديث".
وقال
الحافظ في النكت له (2/746): "ثم إن تعليلهم الموصول بالمرسل أو المنقطع،
والمرفوع بالموقوف أو المقطوع ليس على إطلاقه، بل ذلك دائر على غلبة الظن بترجيح
أحدهما على الآخر بالقرائن التي تحفه".
ومن
الأمثلة على ذلك ما جاء في العلل الكبير للترمذي (262) قال: "حدثنا الحسين بن
سلمة، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن السائب بن يزيد رضي
الله عنه قال: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس البحرين، وأخذها عمر رضي
الله عنه من فارس، وأخذها عثمان رضي الله عنه من بربر)، سألت محمدًا عن هذا الحديث؟
فقال: الصحيح عن مالك، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، ليس فيه
السائب بن يزيد".
فهنا
الراوي عن مالك هو ابن مهدي إمام من أئمة المسلمين، وجبل من جبال الحفظ ومع هذا لم
يقل الإمام البخاري رحمه الله إن كليهما صحيح، ومالك بن أنس مرة نشط فوصله، وفتر
أخرى فأرسله.
مثال
آخر: قال الترمذي (292): حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء،
عن عبدالله بن الحارث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( كان لنعل النبي صلى الله عليه وسلم قبالان مثني شراكهما)، سألت
محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: الحديث إنما هو عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن
الحارث ( كان لنعل النبي صلى الله عليه وسلم قبالان).
وفي
العلل لابن أبي حاتم (4/221): "سألت أبي عن حديث رواه أبو كريب، عن عبدالله
بن إدريس، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب)، قال أبي: هذا خطأ، رواه قوم، عن
ابن إدريس، عن عبيدالله، عن نافع أن النبي صلى
الله عليه وسلم مرسل، قال أبي: ابن إدريس وهم في هذا الحديث، مرة
حدث مرسلاً، ومرة حدث متصلاً، وحديث ابن إدريس حجة يحتج بها، وهو إمام من أئمة
المسلمين".
ولم
يمنع أبا حاتم كون عبدالله بن إدريس حجة يحتج بها، وإمام من أئمة المسلمين أن يحكم
بوهمه في هذا الإسناد، وكان يمكنه أن يقول بعبارة سهلة: إنه مرة نشط فحدث به
موصولاً، ومرة نشط فحدث به مرسلاً.
مثال
آخر: قال ابن أبي حاتم في العلل (3/207): "وسألت أبي عن حديث رواه أبو بكر بن
عياش، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لضباعة رضي الله عنها: (اشترطي ...)؟ قال أبو محمد: رواه الثوري، عن
هشام بن عروة، عن أبيه، عن ضباعة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم
... فقال أبي: إن عامة الناس يقولون: هشام، عن أبيه، (أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لضباعة: ...)، قال أبي: أشبه عندي مرسل، هشام، عن أبيه أن النبي صلى الله
وعليه وسلم ...".
وهنا
أيضًا لم يقل أبا حاتم فيه أن رواية نشط فوصله، وفتر فأرسله، بل رجح الرواية
المرسلة رغم أن من وصله جبل من جبال الحفظ.
وانظر
الأمثلة التالية من العلل لابن أبي حاتم برقم: (193، و329، و371، و793، و1026،
و1279).
الأمر
الثالث: أن البخاري لا يترك حديث الثقة الذي هو أصل في بابه إلا لعلة فيه قاله ابن
الصلاح في صيانة صحيح مسلم (95)، والنووي في شرح مسلم (1/24).
قال ابن رجب في الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (25): فقل حديث تركاه إلا وله علة خفية، لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما والوثوق بهما والرجوع إليهما".
الأمر
الرابع: أنني لم أقف على تصريح للأعمش بالسماع فيه من إبراهيم، والأعمش مدلس
بالاتفاق قاله المعلمي في التنكيل (1/58).
قال
ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/178): "وسئل أبى عن الأعمش ومنصور؟ فقال:
الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصور أتقن لا يدلس ولا يخلط".
وفي
العلل لابن أبي حاتم (1/406): "سألت أبي وأبا زرعة عن حديث ... عن الأعمش، عن
أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه، (عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على
الخفين)؟ ... ورواه منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه ولم يذكر المسح
وذكر (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائمًا)، قلت: فالأعمش؟ قال: الأعمش ربما
دلس...".
وجاء
في علل الترمذي (352): "حدثنا محمد بن عبدالملك
بن أبي الشوارب، حدثنا عبدالواحد بن زياد، حدثنا الحسن بن عبيدالله، عن إبراهيم،
عن علقمة، عن قرثع، عن رجل من جعفي يقال له: قيس أو ابن قيس، عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه وأبو بكر بعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم وهو يقرأ،
فاستمع لقراءته ...) الحديث، وقال: (من سره أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل، فليقرأه
من ابن أم عبد رضي الله عنه)، سألت محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديث عبدالواحد،
عن الحسن بن عبيدالله،
قال محمد: والأعمش يروي هذا عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر رضي الله عنه، ولا يذكر
فيه قرثعًا، وعبدالواحد بن زياد يذكر عن الحسن بن عبيدالله هذا الحديث، ويزيد فيه
عن قرثع، قال محمد: وحديث عبدالواحد عندي محفوظ".
والأئمة
النقاد يعللون بأقل من ذلك. قال المعلمي رحمه الله في مقدمة الفوائد المجموعة (8):
"إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له
علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقًا،
ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المتن، فمن ذلك: إعلاله بأن راويه لم يصرح
بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس".
وفي
العلل لابن أبي حاتم (1/487): "سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة، عن سعيد بن
أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار رضي الله عنه، (عن النبي صلى الله
عليه وسلم في تخليل اللحية)؟ قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن ابن أبي
عروبة، قلت: صحيح؟، قال: لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم يذكر
ابن عيينة في هذا الحديث الخبر، وهذا أيضًا مما يوهنه".
تنبيه:
قول
أبي حاتم: (ورواه الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن
إبراهيم قال: (حُدثت عن النبي صلى الله وعليه وسلم)، لم أقف على رواية الثوري، عن
الأعمش مرسلاً، فإن كانت محفوظة عنه، فهو يدل على اختلاف الرواة فيه عن الأعمش،
بخلاف ما يوهمه كلام الدارقطني في العلل (15/74) حيث قال: "ولم يختلف فيه على
الأعمش"، اللهم إلا أن يقال: إن الثوري حمل رواية الأعمش على رواية منصور،
والله أعلم.
المبحث الثاني: الحديث الدال على صيام العشر من ذي
الحجة:
·
حديث بعض أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم:
روى
أبو عوانة، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع من ذي الحجة،
ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر).
أخرجه:
أحمد في المسند عن سريج وعفان واللفظ له (37/24)، وعن عفان (44/69، و45/375)، وأبو
داود في السنن عن مسدد (2/816)، والنسائي في السنن من طريق أبي نعيم وطريق
عبدالرحمن (375)، وابن أبي الدنيا في فضل عشر ذي الحجة عن خلف بن هشام (37)، والطحاوي
في معاني الآثار من طريق أسد بن موسى (2/76)، والبيهقي في السنن الكبرى من طريق
مسدد (4/284)، وابن عساكر في الأمالي له من طريق عفان (ق106/ أ)، كلهم عن أبي عوانة
به.
وزاد
أحمد (قال عفان: أول اثنين من الشهر وخميسين)، وفي لفظ أبي داود والطحاوي والبيهقي وابن عساكر (يصوم تسع ذي الحجة...)، وفي
لفظ للنسائي (يصوم العشر ... والاثنين والخميس)، ولم يذكر فيه عاشوراء.
وتابع
أبا عوانة:
الحسن بن عبيدالله كما سيأتي ذكر روايته.
وخالف
أبا عوانة:
زهير بن معاوية، فرواه عن الحر بن الصياح، فقال فيه: سمعت هنيدة الخزاعي، قال:
دخلت على أم المؤمنين رضي الله عنها سمعتها تقول: ( كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصوم كل شهر ثلاثة أيام أول اثنين من الشهر ثم الخميس، ثم الخميس الذي يليه).
أخرجه:
النسائي في السنن (375)، قال: أخبرنا علي بن محمد بن علي، حدثنا خلف بن تميم، عن
زهير، عن الحر بن الصياح، قال: سمعت هنيدة الخزاعي ...به.
وليس
فيه محل الشاهد منه.
وخالفهما: شريك القاضي، فرواه
عن الحر بن الصياح، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: ( كان النبي صلى الله عليه
وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، الخميس من أول الشهر، والاثنين الذي يليه،
والاثنين الذي يليه).
أخرجه:
أحمد في المسند عن حجاج بن محمد واللفظ له (9/460)، والنسائي في السنن من طريقه
وطريق سعيد بن سليمان (375)، والبيهقي في الشعب من طريق أحمد بن يونس (5/373)،
وابن عساكر في الأمالي من طريق حجاج (ق105/ب)، كلهم عن شريك به.
واقتصر
النسائي في رواية على الجملة الأولى منه، وفي رواية له (يوم الاثنين من أول الشهر،
والخميس الذي يليه، والخميس الذي يليه)، وفي لفظ البيهقي (يصوم من الشهر الخميس،
ثم الاثنين الذي يليه، ثم الخميس أو الاثنين، ثم الخميس الذي يليه، ثم الاثنين
يصوم ثلاثة أيام).
وخالفهم
جميعًا:
عمرو بن قيس الملائي، فرواه عن الحر بن الصياح، عن هنيدة بن خالد الخزاعي، عن حفصة
رضي الله عنها، قالت: (أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء،
والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة).
أخرجه:
أحمد في المسند واللفظ له (44/59)، والنسائي في السنن عن أبي بكر بن أبي النضر
(375)، وأبو يعلى في المسند من طريقه وطريق أبي بكر بن أبي النضر وطريق ابن أبي
شيبة (12/469، و476، و469)، وابن حبان في الصحيح من طريق ابن أبي شيبة (14/332)،
والطبراني في الكبير من طريق عثمان وطريق أبي بكر بن أبي شيبة (23/205، و216)، وفي
الأوسط من طريق عثمان (8/20)، والسمرقندي في تنبيه الغافلين من طريق ابن أبي شيبة
(337)، والخطيب في تاريخه (10/152، و341، و14/332)، وفي الأمالي بجامع دمشق من
طريق سليمان بن توبة (95)، والشجري في الأمالي من طريق أبي بكر بن أبي شيبة وطريق
عثمان (2/71، و72)، والمزي في تهذيب الكمال من طريق فضل بن سهل وأبو بكر بن أبي
النضر (8/230)، كلهم عن هاشم بن القاسم، عن أبي إسحاق الأشجعي، عن عمرو بن قيس به.
وفي
لفظ السمرقندي (أيام العشر)، وفي رواية أبي يعلى والمزي (صيام العشر)، وفي رواية
للطبراني لم يذكر (ركعتا الغداة)، وفي رواية أبي يعلى (حدثنا الأشجعي)، وفي
الرواية الآخرى له وللمزي (حدثنا أبو إسحاق الأشجعي وليس بعبيدالله).
الراوية
المخالفة لرواية الحر بن الصياح:
وخالفه: الحسن بن عبيدالله،
فرواه عن هنيدة الخزاعي، عن أمه قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فسألتها عن
الصيام؟ فقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل
شهر، أولها: الاثنين والجمعة والخميس".
أخرجه:
أحمد في المسند واللفظ له (44/82، و250)، وأبو داود في السنن عن أحمد بن زهير
(2/822)، والنسائي في السنن عن إبراهيم بن سعيد الجوهري (375)، وأبو يعلى في المسند
عن أحمد بن زهير (12/416)، والطبري في تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب رضي الله
عنه عن محمد بن العلاء والجوهري (2/859)، والبيهقي في السنن الكبرى من طريق أحمد
بن عبدالجبار (4/295)، وفي الشعب من طريق زهير بن حرب (5/374)، وابن عساكر في
الأمالي من طريقه (ق106/ أ)، كلهم عن محمد بن فضيل، عن الحسن بن عبيدالله به.
وفي
لفظ النسائي (أول الخميس والاثنين والاثنين)، ولم يذكر أبو داود في لفظه (الجمعة)،
وفي لفظ أبي يعلى وابن عساكر (أولها الاثنين والخميس والاثنين)، وفي لفظ الطبري والبيهقي
(الاثنين والخميس والخميس).
وخالف
ابن الفضيل:
عبدالرحيم بن سليمان، فرواه عن الحسن بن عبيدالله، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة
الخزاعي، عن امرأته، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (صم من كل شهر ثلاثة أيام من أوله: الاثنين والخميس والخميس الذي
يليه).
أخرجه:
البخاري في التاريخ الكبير تعليقًا عن الحسن (8/248)، وأبو يعلى عن ابن أبي شيبة
واللفظ له (12/325)، والطبراني في الكبير من طريقه وطريق محمد بن سعيد الأصبهاني
(23/216، 421)، وأبو الفضل الزهري في حديثه من طريق ابن أبي شيبة (2/541)، كلاهما
عن عبدالرحيم بن سليمان به.
وفي
لفظ الطبراني (صمن من كل شهر ثلاثة أيام أو من الشهر)، وفي لفظ أبي الفضل الزهري (صمن من كل
شهر ثلاثة أيام أول الشهر ..)، ووقع في سند أبي الفضل الزهري (عن أم امرأته).
الكلام
على الروايات:
أولاً:
الحديث اضطرب الرواة فيه على الحر بن الصياح، والأشبه عندي منها هي رواية أبي عوانة،
وقد تابعه عليها الحسن بن عبيدالله من رواية عبدالرحيم بن سليمان عنه، وفي سندها
امرأة هنيدة وهي مجهولة.
وأما
قول الحافظ في التقريب (1395): "لم أقف على اسمها، وهي صحابية" فلم أعرف
مستنده في ذلك، ولم يتبين لي صحبتها من خلال تتبعي لأسانيد أحاديثها، فالله أعلم.
وأما
باقي الروايات فهي خطأ، وإليك البيان:
فرواية
زهير بن معاوية في سندها خلف بن تميم صدوق -قاله ابن حجر- ولعل الخطأ منه فيها،
وليس فيها محل الشاهد.
ورواية
شريك أيضًا خطأ منه، وقد اضطرب في لفظه، وليس فيها محل الشاهد كذلك.
قال
ابن أبي حاتم في العلل (3/33): "سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه شريك، عن
الحر بن الصياح، عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم
من الشهر الاثنين والخميس الذي يليه ثم الاثنين الذي يليه)، فقالا: هذا خطأ، إنما
هو الحر بن صياح، عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن أم سلمة رضي الله عنها، عن
النبي صلى الله عليه وسلم".
ورواية
أبي إسحاق الأشجعي خطأ منه، وأبو إسحاق هذا في عداد المجاهيل.
قال
عنه الذهبي في الميزان (4/489): "ما علمت أحدًا روى عنه غير أبي النضر
هاشم".
وقال
الحافظ في التقريب (1107): "مقبول".
وقد
تفرد به عن عمرو بن قيس. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن قيس
إلا الأشجعي، ولا عن الأشجعي إلا أبو النضر، تفرد به: عثمان بن أبي شيبة".
والأشجعي
هذا ليس بعبيدالله الأشجعي المشهور، بل هو آخر غيره كما ورد في إسناد أبي يعلى.
قال
الخطيب في تاريخه (10/153): "والأشجعي هذا ليس بصاحب الثوري، ذاك يكنى أبا
عبدالرحمن، واسمه: عبيدالله، وهذا تفرد بالرواية عنه أبو النضر، وكناه أبا إسحاق
ولم يسمه".
وقال
ابن حجر في التقريب (1107): "شيخ لأبي النضر، وقال: ليس هو عبيدالله، هو
آخر".
تنبيه:
قول الطبراني (وتفرد به: عثمان بن أبي شيبة) هذا الحصر فيه نظر يتبين من تخريج الحديث.
ثانيًا:
المحفوظ من رواية الحسن بن عبيدالله ما رواه عنه عبدالرحيم بن سليمان فهو أوثق من
محمد بن فضيل، وتابعه عليها أبو عوانة، وقد أخطأ ابن فضيل فيها من وجوه:
الوجه
الأول: أنه أسقط من سنده الحر بن الصياح، والحديث حديثه عن هنيدة.
الوجه
الثاني: أنه قال: (عن أمه) والصحيح (عن امرأته).
الوجه
الثالث: إنه اضطرب في لفظه.
ثم
إنه ليس فيها محل الشاهد، وفي سندها امرأة هنيدة الخزاعي وقد مر أنها مجهولة.
تنبيه:
ما وقع في رواية أبي الفضل الزهري من قوله (عن أم امرأته) هو خطأ، ولعله من النساخ.
تنبيه
آخر: جاء في العلل للدارقطني (15/199): "وخالفه الحسن بن عبيدالله، واختلف
عنه: فرواه عبدالرحيم بن سليمان، عن الحسن بن عبيدالله، عن أمه، عن أم سلمة رضي
الله عنها".
أقول:
هكذا وقع في العلل، ولعل هذا الإسناد وقع فيه وهم، فإني لم أجد هذه الرواية في شيء من كتب الحديث التي وقفت عليها، ثم إني لم أر رواية للحسن بن عبيدالله عن أمه، وانظر: تحفة الأشراف للمزي (13/65)، والله أعلم.
المبحث
الثالث:
مسالك أهل العلم في التعامل مع الأحاديث المتعارضة في الباب:
المسلك
الأول: من تردد في الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها:
قال
ابن رجب في الطائف المعارف (461): "وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث
-يعني حديث عائشة رضي الله عنها-، فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه، وذكر حديث حفصة
رضي الله عنها، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة رضي الله عنها، فأسنده
الأعمش، ورواه منصور، عن إبراهيم مرسلاً ... وأجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة رضي
الله عنها أرادت أنه لم يصم العشر كاملة، يعني وحفصة رضي الله عنها أرادت أنه كان
يصوم غالبه، فينبغي أن يصوم بعضه ويفطر بعضه، وهذا الجمع يصح في رواية من روى (ما
رأيته صائمًا العشر)، وأما من روى (ما رأيته صائمًا في العشر) فيبعد أو يتعذر هذا
الجمع فيه".
المسلك
الثاني: من قدم المثبت على النافي.
قال
البيهقي في السنن (4/285): "والمثبت أولى من النافي، مع ما مضى من حديث ابن
عباس رضي الله عنهما".
وقال
ابن القيم في الزاد (2/66): "والمثبت مقدم على النافي إن صح".
وهذا
ضعيف، لأن الحديث المثبت، لا يقاوم الحديث النافي.
قال
العلائي في الإجابة لما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة (173): "...
على أن حديث المثبت أولى من حديث النافي،
وقيل: إذا تساويا في الصحة يؤخذ بحديث هنيدة، لكنه لا يقاوم إسناد حديث عائشة رضي
الله عنها".
وقال
الزيلعي في نصب الراية (2/156): "بعض الحفاظ قال: يحتمل أن تكون عائشة رضي
الله عنها لم تعلم بصيامه عليه السلام، فإنه كان يقسم لتسع نسوة، فلعله لم يتفق
صيامه في يومها".
وهذا
ضعيف، فإنه وإن كان يمكن أن يقال هذا في عام، فلا يمكن أن يقال في بقية الأعوام.
قال
المناوي في فيض القدير (5/474): "ولا
يخفى ما فيه، إذ يبعد كل البعد أن يلازم في عدة سنين عدم صومه في نوبتها دون
غيرها".
وقولها
في الحديث (قط) ينفي القول بحمل الرؤية على الرؤية
العلمية قاله القاري في شرح مشكاة المصابيح (4/471).
المسلك
الثالث: الجمع بين الأحاديث:
قال
ابن خزيمة في الصحيح (3/293): "باب ذكر علة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم
يترك لها بعض أعمال التطوع وإن كان يحث عليها، وهي خشية أن يفرض عليهم ذلك الفعل
مع استحبابه صلى الله عليه وسلم ما خفف على الناس من الفرائض".
وهذا
الجواب من أجودها لو صح حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال
ابن حبان في صحيحه (8/372): "ذكر الإباحة للمرء ترك صوم العشر من ذي الحجة
وإن أمن الضعف لذلك".
وقال
النووي في شرح صحيح مسلم (8/71): "فيتأول
قولها (لم يصم العشر) أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما".
وهذا
فيه بعد لا يخفى، فإن لم يصمه في عام لعارض ما، فماذا يجاب عن بقية الأعوام، هل يقال:
إنه في كل عام كان يتجدد له عارض يمنعه من الصيام؟!!!.
وقال
الطحاوي في المشكل (7/418): "فكيف أن يكون للعمل في هذه الأيام من الفضل ما
قد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ثم يتخلف عن الصوم فيها، وهو من أفضل
الأعمال؟! فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل: أنه قد يجوز أن يكون صلى
الله عليه وسلم لم يكن يصوم فيها على ما قالت عائشة رضي الله عنها، لأنه كان إذا
صام ضعف عن أن يعمل فيها ما هو أعظم منزلة من الصوم، وأفضل منه، من الصلاة، ومن
ذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن".
وهذا
أضعفها من وجوه:
الأول:
ما علم من قوته عليه الصلاة والسلام في أمور الطاعات، وجده واجتهاده فيها، وحمله
نفسه على أعلى ما يكون منها، وهو القدوة والأسوة.
الثاني:
أنه كان يمكنه أن يصوم بعضها، ويفطر بعضها ليتقوى على غير الصيام من باقي الطاعات فيتأسى
به بعض أمته في ذلك، وهذا قد يستطيعه أفراد أمته عليه الصلاة والسلام فما بالك به.
الثالث:
أنه يمكن أن ينوع الطاعات في هذه العشر فعام يصومها، وعام يفطرها ليتقوى على غيرها
من الطاعات، فتتأسى به الأمة كل على حسب جهده وطاقته في أبواب الطاعات كما فعل في غيرها مما سنها وشرعها
ولم يواظب عليها كالتراويح في رمضان وغيرها، والله أعلم.
المسلك
الرابع: خطأ حديث عائشة رضي الله عنها.
قال
الكشميري في العرف الشذي (2/260): "وقيل: إن في رواية عائشة رضي الله عنها تصحيفًا،
والأصل (ما رُؤيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ...) أي ما رآه صائمًا غيري، أي غير عائشة
رضي الله عنها، والله أعلم".
وهذا
ضعيف أيضًا، فهذه اللفظة لم أقف عليها إلا من رواية محمد بن إبراهيم بن هدي الأنباري، عن يعلى بن
عبيد، ولم يذكر فيه الخطيب في تاريخه (2/274) جرحًا ولا تعديلاً، وقد خالفه باقي الرواة عن يعلى:
أحمد، وأبو أمية الطرطوسي، وإسحاق بن إبراهيم العفصي، ومحمد بن عبدالوهاب، فلم
يذكروها.
الخلاصة:
أنه
لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام العشر ولا عدمه بخصوصه حديث، ويغني
عنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيح البخاري (2/329) قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (ما العمل في أَيام العشر أَفضل من العمل في هذه، قالوا: ولا
الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء).
والصيام
من جملة الأعمال الصالحة، بل هو من أفضلها كما ثبتت بذلك الأحاديث.
والله أعلى وأعلم، وصلى الله
على نبينا محمد وآله وأصحابه وزوجاته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق