الثلاثاء، 5 مايو 2020

الكلام على حديث بركة شوران


بسم الله الرحمن الرحيم



حرة شَوْران والحديث الوارد في بركتها:     

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.



وبعد:

فهذا مقال مختصر في الكلام على حديث (بارك الله في شوران).

أولاً: التعريف بشوران وموقعه الجغرافي بالمدينة المنورة:

قال ياقوت في معجم البلدان (3/371): "بالفتح ثم بالسكون، والراء وآخره نون ".

   قال عرام السلمي في رسالته أسماء جبال تهامة (2/371): "وهو جبل يطل على سد كبير مرتفع، وفي قبلي المدينة جبل يقال له: الصاري واحد، ليس على هذه نبت ولا ماء غير شوران، فإن فيه مياه سماء كثيرة يقال لها: البَحَرات([1])، وفي كلها سمك أسود مقدار الذراع وما دون ذلك أطيب سمك يكون، وجبل حذاء شوران هذا يقال له: مِيْطان به ماء بئر يقلب لها: ضفّة، وليس به شيء من النبات وهو لسليم ومزينة([2]) ".

 قال نصر الإسكندراني في كتابه الأمكنة والمياه (2/129):"واد في ديار سليم يُفْرغ في الغابة، وهي من المدينة على ثمانية أميال، قيل: من جبال المدينة وأنت تريد مكة شوران عن يسارك، وجبل مطل على السد كبير مرتفع، وحذاءه ميطان به ماء يقال لها: ضعة، وبحذائه جبل يقال له: سن، وجبال كبار شواهق يقال لها: الخلاءة".

وقال السمهودي في وفاء الوفا (4/347): "فقوله: (من عن يمينك وأنت ببطن العقيق) يقضي أن الجبل المعروف بعير هو شوران، وهو مشرف على السد، وكان بناحيته بالعقيق كرم ثنية الشريد، لكن ابن زبالة والزبير والهجري كلهم سموه عيرًا، وليس عليه ماء، فيتأول كلامه بأن المتوجه إلى مكة من قبلة المدينة إذا صار ببعض أودية العقيق التي تصب فيه هناك كان في وجهة يمينه عير الصادر، وعير الوارد في الغرب، وعن يساره شوران في المشرق ويؤيد أن ما ذكر بعد ذلك كله في شرقي المدينة من ناحية القبلة، وقال: ثم يمضي نحو مكة مصعدًا ... ولأنه قال: إن ميطان حذاء شوران، وميطان في المشرق من جهة القبلة، فيكون السد المشرف عليه شوران غير السد الذي بقرب عير".

وشوران حاليًا يكون على يسار الخارج من المدينة المنورة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- عبر طريق الهجرة السريع، بينه وبين مسجد الميقات جبل عير.   

ثانيًا: أورد السمهودي رحمه الله حديثًا في بركة شوران فقال: "وروى الزبير عن محمد بن عبدالرحمن قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إبلاً في السوق فأعجبه سِمَنُها فقال: (أين كانت ترعى هذه)؟ قالوا: بحرة شوران، فقال: (بارك الله في شوران)".



والحديث لا أصل له ولا يصح، لما يلي:

      أولاً: محمد بن عبدالرحمن بالتأكيد ليس صحابيًا، لأنه ليس في الصحابة رضي الله عنهم ممن سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من يسمى بمحمد بن عبدالرحمن، وعليه فيكون الحديث أقل أحواله أن يكون مرسلاً، والمرسل لا يحتج به بإجماع المحدثين.

ثانيًا: محمد بن عبدالرحمن هذا لم أعرفه، ولم أر في شيوخ الزبير بن بكار من اسمه محمد بن عبدالرحمن إلا الحكمي، قال عنه قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/326): "سئل أبو زرعة عنه فأحسن القول فيه".

    وقال أبو حاتم: "لا يعرف"([3]).

    وقال الذهبي في الميزان (3/626): "لا يعرف".

فإن كان هو المهمل في السند فيكون فوق إرساله أنه ضعيف.

وأخشى أن يكون السمهودي أسقط عند نقل الحديث الواسطة التي بين الزبير بن بكار، ومحمد بن عبدالرحمن، ويؤيده أن الزبير بن بكار في كتابه أخبار المدينة كثيرًا ما ينقل من كتاب محمد بن الحسن بن زبالة أخبار المدينة، ومما يقوي هذا الظن أنني وجدت في شيوخ ابن زبالة: محمد بن عبدالرحمن بن جبر الأنصاري من أهل المدينة([4])، ومحمد هذا ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/312) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.

وتلميذه ابن زبالة متهم بالكذب والوضع، قال الحافظ في التقريب: "كذبوه"([5]).

ثالثًا: الحديث لعله في كتاب الزبير (أخبار المدينة) وهو في عداد المفقود([6])، ولم أجده في شيء من دواوين الإسلام، وهذه إحدى علامات الوضع.

قال الرازي في المحصول (4/425): "الخبر الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار فإذا فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة علم أنه لا أصل له"([7]).

 وقال السيوطي في تدريب الراوي (3/441) بعد أن نقل قول ابن الجوزي: (ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع)قال: "ومعنى (مناقضته للأصول) أن يكون خارجًا عن دواوين الإسلام من المسانيد، والكتب المشهورة".

وما زال أهل العلم يستدلون على كذب الأحاديث وضعفها وغرابتها بعدم وجودها في دواوين الإسلام، والأصول التي جمعت بين طياتها الأحاديث.

قال ابن تيمية في مجموع الرسائل والمسائل (1/40): "وأما الحديث المروي (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله) فمن الأكاذيب، ليس في دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد تكون كفارًا وفساقًا يموتون على ذلك".

وقال ابن الصلاح في شرح مشكل الوسيط (1/256): "وليس ما ذكره من المسح خطوطًا ثابتًا في الرواية فيما علمناه، ولا وجدنا له أصلاً في كتب الحديث".

وقال ابن رجب في الفتح له (5/251): "ورواية شعبة لهذا الحديث غريبة، لم تخرج في شيء من الكتب الستة ولا مسند الإمام أحمد".

وقال ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر (1/181): "هذا حديث اشتهر بين الأصوليين والفقهاء ولا وجود له في كتب الحديث المشتهرة، ولا الأجزاء المنثورة".

بل ولو كانت زيادة في حديث ليست في كتب الأحاديث المعتمدة أعلوها بعدم وجودها في الكتب المشهورة التي هي أصول الإسلام.

قال الرافعي (تلخيص الحبير 3/976): "وهذه الروايات كلها في كتب الفقه، وليس في كتب الحديث المشهورة سوى قوله (لا خلابة)".

وقال النووي في المجموع (2/544): "هذه الزيادة غير معروفة في كتب الحديث المعتمدة".

وقال ابن دقيق العيد في الإمام (3/433): "وليس في الأمهات ما اشتهر بين الفقهاء (ثم اغسليه بالماء)".



والحمد لله رب العالمين.







([1]) وكذا وقع في الأماكن للحافظ محمد بن موسى الحازمي بالحاء، ووقع وفاء الوفاء (البجرات) بالجيم، ووقع في معجم البلدان لياقوت (البُجَيرات) بالتصغير.
([2]) بعض الباحثين نسب بعض الكلام هنا لأبي الأشعث الكندي راوي كتاب عرام كالحازمي وياقوت.
([3]) انظر: لسان الميزان (5/255).
([4]) انظر: أخبار المدينة لمحمد بن الحسن بن زبالة (53)، والمدينة المنورة في آثار المؤلفين والباحثين قديما وحديثا تأليف: د/ عبدالله بن عبدالرحيم عسيلان (31).
([5]) انظر: مقدمة كتاب أخبار المدينة لابن زبالة (65).
([6]) انظر: المدينة المنورة في آثار المؤلفين والباحثين قديما وحديثا (31).
([7]) انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/847).

الكلام على حديث تشبيه المدينة بالرمانة



                                 بسم الله الرحمن الرحيم



الكلام على حديث تشبيه المدينة بالرمانة :



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.



وبعد:

فهذا مقال مختصر في الكلام على حديث ( المدينة تكون كالرمانة المحشوة).

روى طلحة بن زيد الرقي، عن عبدالله بن محمد بن أبي يحيى، عن عوف بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون المدينة كالرمانة المحشوة من الناس)، قلت: من أين يأكلون يا نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويطعمهم الله من جنات عدن).

أخرجه: أبو القاسم عبدالرحمن بن العباس البزار الأصم (الأحاديث الواردة في فضائل المدينة 315)، قال: حدثنا أبو حنيفة، حدثنا عمي، أخبرنا أبي، حدثنا طلحة بن زيد، عن عبدالله بن أبي يحيى، عن عون بن الحارث -هكذا وقع في المطبوع وهو تصحيف- به.

وخالف طلحة: محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، فرواه عن عبدالله بن محمد بن أبي يحيى، عن أبي صالح السمان، عن عائشة رضي الله عنها به.

أخرجه: قال الديلمي في مسنده (2/22/أ): أخبرني أبي قدس الله روحه، قال: أخبرنا أبو الحسين الحافظ، قال: أخبرنا أبو محمد الحسين بن محمد الخلال، حدثنا عبيدالله بن أحمد بن يعقوب، حدثنا عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم المدائني، حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا عبدالله بن أبي يحيى الأسلمي، عن أبي صالح السمان، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله e: (كيف بكِ يا عائشة إذا رجع الناس إلى المدينة فكانت كالرمانة المحشوة، يطعمهم الله عز وجل من فوق رؤوسهم، ومن تحت أرجلهم، ومن الجنة).

الحديث لم أجده من هذا الوجه إلا عند الديلمي، وإليه وحده عزاه السيوطي في جمع الجوامع (5/513)، والتقي الهندي في كنز العمال (12/114).

وقد ذكره الذهبي في الميزان في ترجمة عبدالله بن أبي يحيى (3/525)، وفيه: "عن أبي صالح السمان وعوف بن الطفيل، وفي آخره قال في لفظه: (ومن جنات عدن)، وعند الحافظ ابن حجر في اللسان (3/377): (قالت: فمن أين يأكلون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يطعمهم الله من فوقهم، ومن تحت أقدامهم، ومن جنات عدن).

الكلام على الروايات:

أقول: الحديث منكر لا يصح، في الطريق الأول طلحة بن زيد الرقي، قال عنه الإمام أحمد في رواية المروذي (116): "ليس بشيء كان يضع الحديث".

وقال البخاري في التاريخ الكبير (4/351): "منكر الحديث".

قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (4/480): "منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يكتب حديثه".

وقال النسائي في الضعفاء (143): "متروك الحديث".

وعوف بن الحارث بن الطفيل قال عنه الحافظ: "مقبول".

والراوي عن طلحة: محمد بن ماهان قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/73): "مجهول".

وأبو حنيفة محمد بن حنيفة قال الدارقطني (تاريخ بغداد): "ليس بالقوي".

والطريق الثاني في سنده يعقوب بن حميد بن كاسب، قال ابن معين التاريخ رواية الدوري (2/681): "ليس بشيء".

وقال في رواية ابن محرز (1/52): "كذاب، خبيث، عدو لله، محدود، قيل له: فمَن كان محدودًا لا يقبل حديثه؟ فقال: لا، لا يقبل حديث من حد".

وقال عباس العنبري (تهذيب الكمال 8/168): "يوصل الحديث".

وقال البخاري عنه في التاريخ الأوسط رواية الخفاف (الحديث الحسن للدريس 1/411): "نحن لم نر إلا خيرًا، فيه بعض السهولة، وأما في الأصل صدوق، قال أبو محمد الخفاف: قال محمد بن يحيى -يعني الذهلي-: ليس بصدوق في الأصل، وكان حدث عنه ثم ضرب على حديثه، فقال: كتبت عنه ثم سقط".

وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (9/206): "هو ضعيف الحديث".

وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب؟ فحرك رأسه، قلت: كان صدوقًا في الحديث، قال: لهذا شروط".

وقال في حديث رواه يعقوب: "قلبي لا يسكن على ابن كاسب".

وقال زكريا بن يحيى الحلواني (الضعفاء العقيلي 6/433): "رأيت أبا داود السجستاني -صاحب أحمد بن حنبل- قد ظاهر بحديث ابن كاسب وجعله وقايات على ظهور كتبه، فسألته عنه؟ فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها فطالبناه بالأصول فدافعنا، ثم أخرجها بعد فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها".

وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين (245): "ليس بشيء، متروك".

والأشبه والله أعلم أن يكون أحدهما اختلقه والآخر سرقه.



تنبيه:

قال الذهبي في الميزان (2/525) في ترجمة عبدالله بن أبي يحيى الأسلمي، قال فيه البخاري: "حديثه منكر".

ثم ذكر هذا الحديث في ترجمته، وهذا منه عَصْبٌ للجناية برأس ابن أبي يحيى هذا.

وفيه أمران:

الأول: عبدالله بن أبي يحيى وثقه جمع من أهل العلم، قال أحمد: ثقة، وكذا قال ابن معين كما في الجرح والتعديل (5/156).   

وقال أبو داود (تهذيب الكمال 16/101): "ثقة". 

وذكره ابن خلفون في كتابه الثقات (الإكمال لمغلطاي 8/187).، وابن حبان أيضًا في ثقاته (7/43).

وقال ابن شاهين في الثقات (191): "ليس به بأس".

ووثقه الخليلي في الإرشاد (1/308).

وقال الحافظ: "ثقة".

وحاله لا تحتمل هذا الحديث المنكر، والجناية تعصب برأس أضعف الرواة في السند، إلا أن يثبت دليل فتعصب الجناية بمن وقع الخطأ منه وإن كان في السند من هو أضعف حالاً منه.

الثاني: أني لم أجد كلمة البخاري رحمه الله في شيء من كتبه التي بين يدي، بل وجدت في التاريخ الكبير (5/20) ذكر عبدالله بن أبي يحيى هذا فقال: "عن سعيد بن أبي هند المديني، سمع منه ابن أبي فديك".

وعلى قاعدته أنه محتمل، قال المزي في ترجمة ابن أبي المخارق من تهذيب الكمال (4/544): "قال الحافظ أبو محمد عبدالله بن سعيد بن يَرْبوع الأشبيلي: بين مسلم جرحه في صدر كتابه، وأما البخاري فلم ينبه من أمره على شيء، فدل على أنه عنده على الاحتمال، لأنه قال في التاريخ: ( كل من لم أبين فيه جُرْحَة فهو على الاحتمال، وإذا قلت: فيه نظر، فلا يحتمل)".

فربما أراد البخاري بكلمته هذه الحديث الذي ذكره الذهبي ولم يقصد الراوي.

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين. 

الأحاديث الواردة في جبل عير


بسم الله الرحمن الرحيم

جبل عير والأحاديث الواردة في شأنه :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

وبعد:
أولاً: التعريف به وموقعه الجغرافي بالمدينة المنورة:
قال ياقوت في معجم البلدان (4/171): "بفتح أوله، وفتح ثانيه بلفظ حمار الوحش .. قال: وقيل: العير جبل بالحجاز ".
وقال عرّام بن الأصبغ السُلَمي في كتابه أسماء جبال تهامة (2/371): "عير جبلان أحمران من عن يمينك وأنت ببطن العقيق تريد مكة، ومن عن يسارك شَوْران ".
وقال أبو الفتح الإسكندري في الأمكنة والمياه والآثار (2/227): "زعم ابن الكلبي: أنه كان لرجل من عاد يقال له: حمار بن مُوَيْلع كان مؤمنًا بالله تعالى، ثم ارتد فأرسل الله على واديه نارًا فاسود، وصار لا ينبت شيئًا، فضرب به المثل في كل مُقْوٍ".
وقال الهجري في كتابه قسم اللغة والمواضع (3/1443): "ثم تفيضي إلى ثنية الشَّريد، وبها مزارع وآبار وهي ذات عضاه وآجام، تنبت ضروبًا من الكلأ وهي للزبير بن بكار، وفي شرقيها عير الوارد، وفي غربيها جبل يقال له: الفراء ... ثم يفضي ذلك على الشجرة التي بها محرم النبي e وبها يُعرِّس من حج وسلك ذلك الطريق، بينها وبين جبل الفراء نحو ثلاثة أميال، والبيداء مشرفة على الشجرة غربا على طريق مكة، ثم على أثر ذلك مزارع أبي هريرة رضي الله عنه ثم القصور يمنة ويسرة، ومنازل الأشراف من قريش وغيرهم، فمنها عن يمين الطريق للمقبل من مكة بسفح عير قصور كثيرة".
وقال السمهودي في وفاء الوفا (4/395): "اسم للجبل الذي في قبلة المدينة شرقي العقيق، وفوقه جبل آخر يسمى باسمه، ويقال له: عير الصادر، وللأول عير والوارد، ولهذا قال الزبير في أودية العقيق: ثم شعاب الحمراء والفراء وعيرين".
وجبل عير الآن على يسار الخارج من المدينة عبر طريق الهجرة السريع مقابل ميقات آبار علي (الحليفة) من الجهة الشرقية.
ثانيًا: الكلام على الأحاديث:
والذي يجدر ذكره هاهنا أن العامة تظن أن جبل عير من جبال النار، وبعضهم لا ينظر إليه من أجل هذه العلة، والأحاديث الواردة في هذا لا تصح، وإليك بيانها.  
   
الحديث الأول :
ما رواه عبدالمجيد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (... هذا عير جبل يبغضنا ونبغضه، على باب من أبوب النار).
الحديث أخرجه: البزار عن علي بن شعيب واللفظ له (كشف 2/58)، والدولابي في الكنى من طريق إبراهيم بن المنذر (1/127)، وابن قانع([1]) في معجم الصحابة y من طريق إبراهيم ابن محمد بن عرعرة (2/145)، والطبراني في المعجم الأوسط من طريق عبيدالله بن عبدالله المنكدري (6/315)، وابن بشران في الأمالي من طريق علي بن شعيب (1/217)، والخطيب في تالي التلخيص من طريقه (2/548)، كلهم عن محمد بن إسماعيل بن أبي فُديك، عن عثمان بن إسحاق، عن عبدالمجيد ... به.
وهذا إسناد ضعيف جدًا، فيه عبدالمجيد بن أبي عبس، قال فيه أبو حاتم في الجرح (6/64): "لين".
وفيه أبوه ابن أبي عبس، فسره الخطيب في تالي التلخيص له فقال: "عبدالمجيد هو ابن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر".
وقال الحافظ في اللسان (4/55): "وعبدالمجيد هذا نسب في هذه الرواية لجده، وهو: عبدالمجيد بن محمد بن أبي عبس بن جبر".
قال الألباني في الضعيفة (4/122): "لم أجد له ترجمة".
وفيه عثمان بن إسحاق([2]) ذكره البخاري في التاريخ الكبير (5/59) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.
وذكره ابن حبان في الثقات (8/448)
قال الهيثمي في المجمع (4/13): "فيه عبدالمجيد بن أبي عبس لينه أبو حاتم، وفيه من لم أعرفه".
ولعله رحمه الله قصد هذين الاثنين بقوله: "وفيه من لم أعرفه".  
وفيه ابن أبي فديك، قال الحافظ فيه: "صدوق".
وقد تفرد به، قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن أبي عبس بن جبر إلا بهذا الإسناد، تفرد به: ابن أبي فديك".
وهو لا يحتمل مثل هذا([3]).

الحديث الثاني :
ما رواه عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالله بن مِكْنف، عن أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عير على ترعة من ترع النار).
أخرجه: ابن معين في التاريخ واللفظ له (رواية الدوري: 4/53)، والبخاري في التاريخ الكبير عن يوسف بن بهلول (5/93)، وابن ماجه عن هناد بن السري (528)، والعقيلي من طريق ابن معين بالشطر الأول منه (3/343)، وابن عدي في الكامل من طريق هناد (5/372)، كلهم عن عبدة ... به.

الرواية المتابعة لرواية ابن مكنف:
وتابعه: جميل بن عبدالله، فرواه عن أنس صلى الله عليه وسلم ... به.
أخرجه: أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/57): حدثنا أبو محمد عبدالله بن شعيب بن أحمد بن محمد بن مهران القاضي الأَرْدَسْتاني قدم علينا سنة سبعين، ثنا عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز، ثنا عبيدالله بن محمد بن عائشة، ثنا حماد، ثنا محمد بن إسحاق، عن جميل بن عبدالله، عن أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (... وإن عيرًا على ترعة من ترع النار).       
والحديث ضعيف جدًا، فيه ابن مكنف، قال فيه البخاري في التاريخ: "فيه نظر".
وقال الذهبي في الكاشف: "واه".
وقال الحافظ في التقريب: "مجهول".
وفيه انقطاع، قال ابن حبان في المجروحين (1/497): "لا أعلم له سماعًا من أنس صلى الله عليه وسلم، ولا لمحمد ابن إسحاق عنه، وهذا منقطع من جهتين، لا يجوز الاحتجاج به.
ولم أجد تصريح ابن إسحاق بالتحديث في شيء من طرقه.
   وأما متابعة جميل لابن مكنف على لفظه فلا تصح من وجوه:
الوجه الأول: في سندها عبدالله بن شعيب ذكره أبو نعيم في تاريخه ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.
الوجه الثاني: أنه قد خالف فيها أحمد بن محمد بن إسماعيل، وعبيدالله بن محمد، فقد روياه عن عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، عن العيشي بالسند السابق ولم يذكرا الزيادة التي ذكرها عبدالله بن شعيب.
وأخرج رواية أحمد بن محمد بن إسماعيل: ابن عبدالبر في التمهيد (9/310)، قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي، قال حدثنا عبيدالله بن محمد العيشي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، جميل بن عبدالله، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحد جبل يحبنا ونحبه، وإنه على ترعة من ترع الجنة).
   وأخرج رواية عبيدالله بن محمد: الذهبي في معجم الشيوخ (348) من طريق محمد بن الحسين القرضي، عن أحمد بن محمد البزاز، عن عبيدالله بن محمد، عن البغوي، عن العيشي  ... به.
   وكذلك لم يذكرها إبراهيم بن المختار في روايته عن ابن إسحاق، أخرج روايته أبو الشيخ في العظمة (5/1708) من طريق محمد بن حميد، عن إبراهيم بن المختار، عن ابن إسحاق، عن جميل به.
   الوجه الثالث: إن كان عبيد الله بن محمد العيشي ضبط حديثه، فيكون ابن إسحاق اضطرب فيه مرة يرويه عن ابن مكنف، ومرة يرويه عن جميل بن عبدالله، وإلا فيكون الصواب رواية عبدة بلا شك، فهو أوثق من العيشي بمراحل.
أقول: ولا تنفع العيشي متابعة إبراهيم بن المختار على إسناده، فإن الراوي عنه هو محمد بن حميد الرازي وهو متروك.
على أن جميل بن عبدالله مجهول، فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/518) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.  
 
الحديث الثالث : 
ما رواه ابن شبة في تاريخ المدينة (1/83): قال -يعني محمد بن يحيى بن علي بن عبدالحميد الكناني أبو غسان- وحدثني عبدالعزيز، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن عبدالرحمن الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحد على باب من أبواب الجنة، وعير على باب من أبواب النار).
الحديث مرسل وإسناده ضعيف جدًا، عبدالرحمن الأسلمي هو ابن حرملة من طبقة التابعين، ثم هو فوق هذا متكلم فيه.
قال ابن المديني: "سمعت يحيى -يعني ابن سعيد القطان- يقول: محمد بن عمرو أحب إلي من ابن حرملة، وكان ابن حرملة يلقن، ولو شئت أن ألقنه أشياء، فراددت يحيى في ابن حرملة، فقال: ليس هو عندي مثل يحيى بن سعيد يعنى الأنصاري".
وقال أبو بكر بن خلاد: "سمعت يحيى -يعني ابن سعيد- وسئل عن ابن حرملة؟ فضعفه ولم يدفعه".
وقال يحيى بن معين: "صالح".
وقال يحيى بن معين: "نا يحيى بن سعيد، عن عبدالرحمن بن حرملة قال: كنت سيئ الحفظ -أو كنت لا أحفظ- قال: فرخص لي سعيد بن المسيب في الكتاب".
قال أبو حاتم الجرح والتعديل (5/223): "يكتب حديثه، ولا يحتج به".
وقال ابن حبان في الثقات (8/67): "يخطئ".
وقال الحافظ في التقريب: "صدوق ربما أخطأ".
وفي سنده ابن أبي حبيبة، مختلف فيه والراجح أنه ضعيف، قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: "من أهل المدينة ثقة".
وقال أبو حاتم الجرح والتعديل (2/83): "شيخ ليس بقوى، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث، دون إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وأحب إلى من إبراهيم بن الفضل".
وقال ابن معين في رواية الدارمي (71): "صالح"، وفي رواية ابن الجنيد (69): "ليس به بأس".     
وقال البخاري في الضعفاء (25): "منكر الحديث".
وقال النسائي في الضعفاء (39): "ضعيف مدني".
وقال الدارقطني (112): "متروك".
وقال الحافظ في التقريب: "ضعيف".
وفيه عبدالعزيز بن عمران، قال فيه ابن معين في رواية الدارمي (169): "ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر".
وقال البخاري في الضعفاء (151): "منكر الحديث، لا يكتب حديثه".
قال عبد الرحمن في الجرح والتعديل (5/391): "سالت أبي عن عبدالعزيز بن عمران الذي يروى عنه يعقوب الزهري وغيره؟ فقال: متروك الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث جدًا، قلت: يكتب حديثه؟ قال: على الاعتبار".
وقال النسائي في الضعفاء (168): "متروك الحديث".
وقال الحافظ في التقريب: "متروك، احترقت كتبه فحدث من حفظه فاشتد غلطه، وكان عارفًا بالأنساب".

الحديث الرابع :
ما رواه ابن شبة أيضا في تاريخ المدينة (1/83): قال -يعني محمد بن يحيى ابن علي- وحدثني عبدالعزيز، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحُصَين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحد على ركن من أركان الجنة، وعير على ركن من أركان النار).
وهذا أيضًا مرسل داود بن الحصين من طبقة التابعين.
وهو ضعيف جدًا في إسناده عبدالعزيز بن عمران، وابن أبي حبيبة وقد تقدم الكلام عليهم، وأخشى أن يكون ما وقع في هذا الإسناد والذي قبله من تخليط ابن عمران مرة يرويه عن ابن أبي حبيبة، عن عبدالرحمن الأسلمي، ومرة يرويه عن ابن أبي حبيبة، عن داود.
وقد خالفه: ابن أبي يحيى، فرواه عن داود بن الحصين، عن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحد على ترعة من ترع الجنة -والترعة باب-، وعير على ركن من أركان النار).
أخرجه: عبدالرزاق في المصنف (9/268) عن ابن أبي يحيى ... به.
وهذا إسناد على إرساله ضعيف جدًا، ابن أبي يحيى هو إبراهيم بن محمد متروك.
قال ابن عدي في الكامل (3/561): "داود هذا له حديث صالح، وإذا روى عنه ثقة فهو صحيح الرواية، إلا أن يروي عنه ضعيف، فيكون البلاء منهم لا منه، مثل: ابن أبي حبيبة هذا، وإبراهيم بن أبي يحيى".

والحمد لله رب العالمين.



([1]) سقط من سند ابن قانع (عبدالمجيد بن أبي عبس)، فإنه إنما يروي عثمان بن إسحاق هذا الحديث عنه، وقال في سنده: (عثمان بن إسحاق بن أبي عبس بن جبر). ولم أجد فيما بين يدي من مصادر من نسبه بذلك، ولعله وقع فيه تصحيف.
([2]) وليس هو عثمان بن إسحاق بن خَرَشَة، هذا لم يرو عنه إلا الزهري.
([3]) تنبيه: الحديث عزاه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/437) للإمام أحمد، ولم أجده في المسند، ولم يذكره الحافظ نفسه في أطراف المسند في ترجمة أبي عبس بن جبر t (7/28)، فلعله رحمه الله وهم في ذلك.